إجماع من تحت القصف
باستثناء بعض الممانعين المتشدّدين، يبدو واضحاً أنّ هناك إجماعاً لبنانياً يرفض الانجرار في حروب إقليمية، لا تملك البلاد ثمن خوضها. وما سرعة التوافق السياسي حول مطلب وقف إطلاق النار إلّا دليلًا على هذا الإجماع. سيُسارع الممانع لنعت شعار رفض الحرب بالانهزامية، كما سيسارع خصمُه بتحميله مطالب أخرى، كالعودة إلى اتفاق الهدنة. لكنّ هذا الاجماع فضفاض ولا يحمل كل هذه التأويلات، وبات يضمّ مروحة واسعة من الاتجاهات السياسية. ويأتي، هذه المرة، مرفقًا بوعي حادّ عن مخاطر ماكينة القتل التي تحيط بنا، والتي لن تردعها خطابات الهدنة والقرارات الدولية والاستسلام.
إجماع بعد الاغتيالات
لكنّ هناك إجماعاً آخر، نابعاً هذه المرّة من الخروقات التي طالت حزب الله وفشله في ردع العدوان الإسرائيلي، كما وعد على مرّ السنوات منذ العام 2006. فـ«معضلة حزب الله»، والتي كانت تحوم فوق البنيان السياسي اللبناني، انفجرت أزمةً سياسيةً مفتوحة، ليس تحت ضربات خصومها الداخليين، بل جراء انهيار معادلة «الشعب والجيش والمقاومة» التي كان من المفترض أن تحمي لبنان. لم تنهَر هذه المعادلة فحسب، بل بات الثمن الذي بُذِل من أجلها، من قمع وسيطرة لحزب الله وتدمير لمؤسسات الدولة، غير مقبول بعد اليوم.
مكابرة واستعجال
في وجه هذين الإجماعَيْن، ثمّة موقفان سياسيان يلتقيان حول رفضهما. الأوّل هو موقف حزب الله الذي يكابر على الوقائع، رافضًا البحث بأي مسألة إلّا موضوع وقف إطلاق النار، والذي كان يرفضه أصلًا قبل بضعة أسابيع. ورغم أن هذا الموقف يمكن اعتباره تنازلًا عن رغبة إيران بالتمسّك بوحدة الساحات، والتي باتت اليوم منتهية الصلاحية أصلًا، ما زال هذا الموقف يأمل بتحسين شروطه حسب التطوّرات الميدانية، ويكابر في وجه إجماع رافض للحرب ومشكِّك بفعالية حزب الله الدفاعية.
في مقابل موقف حزب الله، ثمّة معارضة نيابية قرّرت استعجال الأمور وكأنّها تريد الاستفادة من الوضع الذي أنتجته الحرب لتحقيق بعض المكاسب، غير آبهة بما يعنيه خيار كهذا على السلم الأهلي الهشّ. فطالبت، في ظلّ الحرب الدائرة، بانتخاب فوريّ لرئيس جديد، والعودة لاتفاقيّة الهدنة مع إسرائيل، وحصر السلاح وقرار الحرب بيد الدولة. تبدو تلك المعارضة مستعجلةً لجني ثمن الحرب، معتبرةً أنّ عليها سحب أكبر عدد من التنازلات من حزب الله قبل أن يتمكّن من تحسين شروطه ميدانيًا، إن استطاع ذلك.
لكنّ هذا الاصطفاف الذي بدأت توتّراته تظهر على الساحة الداخلية، يبدو متأخرًا. فحتى الإجماع حول مطلب وقف إطلاق النار أصبح متأخرًا، في الوقت الذي يستعدّ فيه الجيش الإسرائيلي لعملية اجتياح، يتّضح يوماً بعد يوم أنّها غير محدودة. ومصير هذا الاجتياح، والحلول الدبلوماسية التي سيفرضها، سيحدّدها الميدان، مهما كان موقفنا من هذا الميدان.
الإجماعات في وجه المخاطر
بين مكابرة البعض واستعجال البعض الآخر، هناك مصير بلد يتمّ التلاعب به، بلد يواجه من جديد خطر الانزلاق في دوامة العنف الأهلي. وتجنّب هذا المصير يبدأ من الاعتراف بالإجماعات التي أنتجتها الأسابيع الماضية، بثمن مرتفع جدًا.
الأولويّة هي لوقف إطلاق النار وسحب لبنان من دوامة العنف الإقليمي، وذلك من خلال مطلب وقف إطلاق النار الفوري والبدء بتطبيق القرار 1701. سقطت معادلة وحدة الساحات مع انهيار جبهة الإسناد وحصرها فقط بالأطراف، بعدما اعتبرت إيران أن حربها مستقلّة عما يجري، وليس هناك الكثير للتفاوض عليه غير وقف إطلاق النار. وحتى لو كان الميدان سيقرر مصير كل هذه المطالب، لا يبدو أن هناك سقفًا آخر للسياسة اليوم.
ثانيًا، وانطلاقًا من الإجماع الثاني، على حزب الله التوقّف عن المكابرة على انهيار معادلة الردع التي أقامها منذ 2006، والقبول بأنّ الأوضاع الداخلية تغيّرت بما لا رجعة عنه. فالعودة إلى نظام سياسي يسيطر عليه حزب الله أمنيًا لم يعد ممكنًا، وقرار تجنّب الاقتتال الداخلي جزئيًا مرتبط بقبوله بهذا الواقع الجديد.
ثالثًا، قرار تجنّب الاقتتال الداخلي هو بيد خصوم حزب الله أيضًا، والذين ما زالوا يتعاطون مع معضلة «حزب الله» بمقاربة «الضربة القاضية». وهذا ليس إلّا تحضيرًا لانقسام مذهبي، سيطالنا جميعًا، مناصري الحزب كما معارضيه. فلا عودة إلى نظام يسيطر عليه حزب الله، لكن أيضًا لا عودة لأدبيات معارضته.
رابعًا، بات على التسويات الداخلية البحث، ليس فقط بهوية الرئيس وتقسيم السلطة، ولكن أيضًا بالتهديدات الإسرائيلية وكيفية مواجهتها بعد هذا العدوان، خاصة بعد انهيار الردع كما انهيار ترسانة القرارات الدولية التي كان من المفترض أن تحمينا.
خامسًا، وهنا نقد المكابرة يطال الجميع، أو على الأقلّ من لا يزال يكترث بوحدة الأراضي وإمكانية العيش المشترك. علينا مواجهة حقيقة أن الشرخ الطائفي بات يهدّد السلم الأهلي ومعه أي تسوية أو بناء لدولة أو حركة احتجاجية. فالمبادرات الفردية لمساعدة النازحين، والتي تشكّل اليوم آخر إشارة عن وجود مجتمع خارج التقوقع الطائفي، لا تلغي أنّنا دخلنا مرحلة خطرة من تاريخ انقساماتنا الطائفية والمناطقية. فإذا كان هناك دور للقوى السياسية اللبنانية، والتي لا تأثير لها على مجرى الأمور الحربية، فهو في فعل المستحيل لتفادي الحرب القادمة.
هذا كلّه قبل مواجهة خطر الشرخ الداخلي، والذي باتت إشاراته تتكاثر في الأيام الأخيرة حول شيطنة النازحين اللبنانيين، بعد شيطنة السوريين. وتاريخنا مليء بتجارب عنف خارجي يتحوّل عنفاً داخلياً. والحروب الأهلية، على عكس الحروب الخارجية، تأخذ وقتًا طويلًا لكي تنتهي.