لم يكن يوم جنازة الشاعر نزار قباني في 4 نيسان 1998 يوماً عادياً في تاريخ مدينة دمشق. كانت هذه المدينة العريقة، الغارقة في سباتها والمكبّلة بسنين طويلة من الاستبداد وعبادة الفرد، تعيش على وقع مرض ديكتاتورها حافظ الأسد وتحضيره لمشروع التوريث لابنه بشار.
ليس من المبالغة إذا قلنا إنه في ذلك الزمن، حيث لا زمن إلا زمن الدكتاتور، كان يراد للمدينة ألّا تعرف من التاريخ إلا أبدية آل الأسد. وألا تعرف من الآلهة إلا حافظ الأسد. وألا تعرف من الشعراء إلا المسبِّحين بحمد حافظ الأسد. وفجأة أتت جنازة نزار قباني لتعيد في برهة، للحياة دفقها، وللمدينة هويتها المتمردة، وللناس صوتها.
لم تكن علاقة نزار قباني مع نظام الأسد بالعلاقة الودية، خصوصاً وأنّ الشاعر الذي فقدَ زوجته بلقيس الراوي في انفجار السفارة العراقية في بيروت في 15 كانون الأول 1981، حمّل في قصيدته «بلقيس» النظام السوري مسؤولية قتل زوجته. وقام هذا الأخير بمنع توزيع عدد مجلة المستقبل التي كانت تصدر في باريس، والتي نشر فيها نزار قصيدته الشهيرة.
كما سبق لنزار قباني أن تحدّى آل الأسد في عقر دارهم في زيارته الأخيرة لدمشق في العام 1988، عندما ألقى بحضور باسل الأسد في المكتبة الوطنية قصيدته «السيرة الذاتية لسيّاف عربي»، وهي بمثابة بورتريه ساخر للدكتاتوريّين العرب، وعلى رأسهم حافظ الأسد. انسحب آنذاك نجل الأسد من القاعة احتجاجاً، وأُلغِيت لاحقاً كلّ المواعيد والموائد الرسمية التي كانت مقرّرة للشاعر، وغادر نزار مدينته ولم يعد إليها إلا مسجّىً في تابوت.
بعدها تعرّض نزار عدّة مرات لمحاولات ابتزاز من أجل أن يكتب قصائد مديح بحافظ الأسد، كما فعل شاعر البلاط الأسدي محمد مهدي الجواهري، حتى أنّ الأسد أرسل مستشاره الخاص رياض نعسان الأغا- باعتراف هذا الأخير- إلى جنيف منتصف التسعينات حيث أمضى أربعة أيام في محاولة رخيصة لإقناع الشاعر بتقديم فروض الولاء والطاعة الشعرية للطاغية الدمشقي. وبلغ الابتزاز حدًّا أنّ قرار محافظة دمشق تسمية شارع باسم الشاعر في حياته، تمّ تصويره على أنه جاء بناء على توجيه أوامر شخصية من حافظ الأسد. دفع الأمر نزار قباني بعد أن أسقط من يده، وهو على سرير الموت، أن يوجه رسالة شكر مقتضبة لحافظ الأسد، كال الإعلام الرسمي السوري طويلاً فيها وشرب.
الجنازة
توفّي نزار قباني في لندن بتاريخ 30 نيسان من العام 1998، وكانت وصيّته أن يدفن في مسقط رأسه دمشق في مدافن عائلته في مقبرة باب الصغير. ورغم أن العائلة سبق لها أن رفضت عرض الرئاسة السورية في دفع تكاليف علاج قباني في لندن، فإنّ حافظ الأسد أمر بإرسال طائرة خاصة لنقل جثمانه إلى دمشق، حيث حطّت في مطار المزة العسكري، وتمّ التحضير لمراسم جنازة رسمية بحضور وزير الدفاع آنذاك مصطفى طلاس ورئيس مجلس الشعب عبد القادر قدورة وثلاثة من مستشاري القصر الجمهوري. وكان مقررا أن ينطلق موكب الجنازة يوم 4 نيسان بالسيارات من بيت قباني في حي المالكي إلى مقبرة باب الصغير في جانب أسوار المدينة القديمة.
كنتُ يومها طالبًا جامعيًا في دمشق، وقرّرت كما الكثير من أبناء جيلي تجنب المشاركة في الجنازة، لمعرفتي المسبقة بحرص السلطة على تجيير مثل هذه المناسبات لصالحها، خصوصاً مع توجّه الأنظار إلى دمشق مع وصول مراسلي وسائل الإعلام العربية ووكالات الأنباء للعاصمة السورية دمشق لتغطية الحدث.
كنت يومها جالساً أمام كمبيوتري في واحدة من المكتبات البحثية المطلة على شارع أبو رمانة، في الوقت الذي راحت تتردد على مسامعي من بعيد أصوات سيارات دفن الموتى: ترحموا على المرحوم الشاعر الكبير نزار قباني، ويختلط صوتها مع أصوات أبواق سيارات ودراجات الشرطة، والتي أخذت بالخفوت مع ابتعاد الموكب تدريجياً عن مكان تواجدي.
لم أُحرّك ساكناً وبقيتُ جالساً أمام كتبي، وبعدها بقليل سمعتُ صوت هدير خافت يزداد ارتفاعاً، صوت يشبه صوت هدير البشر. صوت لم نعتد سماعه في هذه المدينة الصامتة منذ عقود. اقتربت من النافذة فإذا بي أتفاجأ بجموع كبيرة تتخاطف نعشاً ملفوفاً بالعلم السوري وتنزل به شارع أبو رمانة.
كان مشهداً حقيقياً وصادقاً، لا يشبه ما عوّدتنا عليه السلطة الأسدية في استعراضاتها ومسيراتها المنظمة في فضاءات المدينة العامة. أسرعتُ من دون تردّد للخارج واقتربت من الجموع التي نجحت قبل دقائق في كسر طوق الحراسة وأخرجت النعش من سيارة الموكب الرسمي وأعادته لأحضان الناس.
كان مشهداً مهيباً لرجال ونساء، لشباب وصبايا، لمحجّبات وسافرات، يلتفّون حول النعش ويطلقون صيحات وشعارات لم تألفها أذناي من قبل، لما فيها من تأكيد على الهوية الدمشقية ومن تحدٍّ للسلطة ومحاولاتها البائسة في تجيير موت الشاعر لصالحها. كان الناس يصرخون بغضب: شيلوا ورد المسؤولين ورشوا نزار بالياسمين، لتعود وتردّد نزار نزار نزارنا... الشّام الشّام شامنا، ليعلو الصوت من جديد لا إله إلا الله... نزار يا حبيبَ الله.
لم أتردّد لحظة أمام هذا المشهد الغني والمؤثّر، ومشيت مع الناس الى جانب النعش وصار صوتي واحدًا من أصواتهم. في نهاية شارع أبو رمانة على مدخل جسر الرئيس الذي يؤدي إلى الجامعة السورية، كانت دوريات الشرطة العسكرية المدججة بالسلاح تنتظرنا وتريد استعادة النعش وإدخاله الى سيارة دفن الموتى ومنعنا من الوصول به للجامعة. وهنا رأيت بأمّ عيني كيف غيّر الخوف وجهته، وانتقل بثوانٍ من الناس الذين رفضوا تسليم النعش تحت تهديد السلاح، إلى دوريات الشرطة العسكرية التي خافت أن تطلق النار وترتكب مجزرة في المشيِّعين.
نجحنا في عبور الجسر وعلى أبواب الجامعة وكليّة الحقوق، كليّة نزار قباني، انضمّت إلينا أعداد كبيرة من الطلبة وصرنا أشبه بمظاهرة تضمّ الآلاف بتشييع شاعر كبير، وسرنا عبر منطقة الحلبوني الى شارع النصر باتجاه مدخل سوق الحميدية، والنعش محمول على الأكتاف والصياحات لا تتوقف، والناس يرمون علينا الأرزّ من النوافذ. ومن هذه اللحظة لم يبقَ إلا صورة يتيمة لعبور النعش شارع النصر محاطاً بالآلاف من الناس.
لا أنسى كيف عند مدخل سوق الحميدية، صعد شخص لم نألف وجهه في الجنازة خلال مسيرنا الطويل، وراح يردّد بعض الهتافات المتداولة في العراضة الشامية حيوا لنحيي ونحن نردّد من خلفه حيينا، حيوا الشام...حيينا...حيوا نزار حييينا. وفجأة صرخ فينا حيوا حافظ، وساد فجأة صمت ثقيل ومخيف، قبل أن تنطلق الحناجر متجاهلة صيحته وكأنها لم تكن، ومردّدةً الهتاف المعهود: لا الله إلا الله نزار حبيب الله.
وأكاد أجزم أنه خلال عهد حافظ الأسد الأب الذي امتد لمدى ثلاثة عقود، كانت هذه المرة الوحيدة التي استطاع فيها الناس أن يعبّروا عن مشاعرهم في الشارع متحدّين السلطة وآلاتها القمعية بحشود ضخمة غلب عليها العنصر الشبابي، ومستعيدين شاعراً كبيراً كرمز لهوية المدينة وتمردها.
دمشق إذ تستعيد اليوم نزار قباني
خلال عهد بشار الأسد، جرت محاولة لاستعادة نزار قباني كشاعر للمدينة وياسمينها في سياق احتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية التي أشرفت عليها أسماء الأسد، زوجة بشار، والتي سمّيت بـ«سيدة الياسمين». كما جرت محاولة بائسة لاستعادة نزار قباني جماهيرياً من خلال مسلسل تلفزيوني من ضمن ما تنتجه الدراما السورية. ورغم رفض عائلته السماح بتصوير هذا المسلسل، إلا أنّ العمل أُنجِز وبُثّ في العام 2005 من دون موافقتها، حيث تم تقديم نزار كشاعر الشام وشاعر النساء، وتم إفراغ سيرته من كل جرعات التمرد السياسي والاجتماعي والجنسي، التي سكنت مسيرته الشعرية والحياتية منذ اليوم الأول.
واليوم بعد سقوط النظام الأسدي، يستعيد الكثير من الناشطين والسياسيين والإعلاميين أشعار وكتابات نزار قباني بوصفه شاعر دمشق الأول وممثّل هويتها المدينيّة، لا بل وأحياناً هويتها الأمويّة المفترضة. وتملأ أشعار نزار فضاءات السوشيال ميديا والفضاءات العامة على السواء.
وبقدر ما تغيب عن هذه الفضاءات أشعار نزار التي تحمل معاني التمرّد السياسي أو الاجتماعي، بقدر ما تحضر أشعاره التي تفتخر بدمشق عاصمة الأمويين و تحتفي بالمدينة القديمة وجامعها الأموي وبجمال بيوتها الشامية وبحاراتها وياسمينها. لا بل ان بعض أشعار نزار المكرّسة باتت تحتل لافتات المحالّ التجارية وتُحفر على الحجر أو تُخطَّط بالخط العربي على جدران الكثير من الأزقة والطرقات داخل أسوار المدينة القديمة، أو في الباحات الداخلية للفنادق والمطاعم داخل المدينة.
ومع أن الشاعر لطالما أشار لاقتران الهوية الدمشقية بأشعاره، وارتباط شعره بالتمرّد وكسر المحرّمات والخروج على نسق السلطة والجماعة، فإنه بات يوظَّف اليوم في سياق مختلف تمامًا هو أقرب للمحافظة الاجتماعية والافتخار الأجوف والمباهاة البلهاء بالشام وأهلها وحضارتها وأمويّتها.
لقد سبق للمدينة في أواخر العهد العثماني أن اضطهدت وأبعدت أبو خليل القباني، وهو عمّ أبي نزار، وكان أول من كتب المسرحيات في نهاية القرن التاسع عشر و مثّلها في دمشق، وقتَ لم يكن مجتمع المدينة مستعدّاً بعد لتقبّل هذا النوع من الأدب الجديد. ثار عليه رجال الدين وحرّضوا العامّة، وانتهى به الأمر إلى ترك المدينة بعد أن أصدر السلطان فرماناً يمنعه من ممارسة هذا الفن الذي لم يكن قد سمِّي بعد بالمسرح. وإذا كان نزار قباني يقول إنّ الذقون المحشوّة بغبار التاريخ التي طلبت رأس أبي خليل طلبت رأسه أيضاً، فهناك حادث مفجع آخر ترك جرحاً عميق الأثر فيه. لم يكن الشاعر يتجاوز الخامسة عشرة من عمره عندما انتحرت أخته الكبرى بسبب عدم قدرتها على الزواج من حبيبها، ويضع قباني هذه الحادثة في سياق تمرده على مجتمعه ويقول: قبل أن تنتحر أختي لم أكن أعرف أنني أعيش في مجتمع بوليسي يمنع الشجرة من أن تزهر والقمر من أن يتكوّر والنهد من أن يتكوّر، حين مشيت في جنازة أختي كان الحب يمشي إلى جانبي ويشدّ على ذراعي ويبكي، بعد مصرع أختي قرّرت أن أنتقم لها بالشعر.
لقد كان لمدينة دمشق في أوجهها المختلفة- كهوية مركبة وقيود اجتماعية محافظة ونمط عيش متنوع وتوق كامن إلى التحرّر- مكان محوري في حياة نزار قباني وتأثير كبير في أشعاره. ورغم أنّ نزار قباني أمضى جلّ حياته بعيداً عن الشام، ولم يعد إليها إلا في فترات متقطعة ومتباعدة، فإنّها ظلّت تسكنه وتؤرّق أشعاره حتى آخر يوم في حياته. لكن خلافًا لما يعتقده الكثيرون، فإن نزار قباني الشاعر والمثقف والدبلوماسي هو فعلياً ابن المدنية الحديثة أكثر منه بكثير ابن المدينة التقليدية القديمة التي يحضر فيها قباني بشكل طاغٍ. فالشاعر الذي ولد في بيت دمشقي تقليدي في حيّ مئذنة الشحم داخل الأسوار، سرعان ما سيغادره مع عائلته ليسكن في حي ساحة النجمة الحديث. ونزار قباني الذائقة الشعرية المتمرّدة والاحتكاك الواسع بالثقافة الفرنسية الحديثة والجنسانية المتفلتة وحرية المرأة والتحرّر السياسي، لم يتخرج من حلقات الكتاتيب وتحفيظ القرآن التقليدية، بل هو تلميذ الكلية العلمية الوطنية وطالب كلية الحقوق في الجامعة السورية والموظف الشاب في السلك الدبلوماسي السوري.
تحضر دمشق المدينة في أشعار قباني ونصوصه النثرية، ليس فقط من خلال عناصر البيت الشامي والأسواق والقبب والمآذن والطعام والروائح والنباتات واللهجة المحكية، بل هي تحضر أساساً من خلال التمرّد الذي زرعته هذه المدينة المحافظة اجتماعياً في أشعاره وشخصيته، بدءاً من «قالت لي السمراء» الذي نشره الشاعر الشاب على حسابه الشخصي في العام 1944 وأقام عليه الدنيا الدمشقية ولم يقعدها. عن هذا يقول في كتاب «قصتي مع الشعر»: قالت لي السمراء حين صدوره عام 1944 أحدث وجعاً عميقاً في جسد المدينة التي ترفض أن تعترف بجسدها أو بأحلامها. كان دبوساً في عصب المدينة الممدودة منذ خمسمائة عام على طاولة التخدير تأكل في نومها وتعشق في نومها وتمارس الجنس في نومها.
أما قصيدة «خبز وحشيش وقمر»، التي نشرها الشاعر في «الآداب» البيروتية في العام 1954، فأثارت بدورها عاصفة في دمشق وصلت إلى البرلمان السوري حيث طالب العديد من النواب بطرد الشاعر من السلك الدبلوماسي باسم الكرامة الوطنية، ولتجرُّئِه على الممارسات الدينية للشرائح الشعبية. وفي هذا يقول نزار في الكتاب نفسه: أنا أيضاً ضربتني دمشق بالحجارة، والبندورة والبيض الفاسد حين نشرت قصيدتي «خبز وحشيش وقمر». العمائم نفسها التي طالبت بشنق أبي خليل القباني طالبت بشنقي... والذقون المحشوة بغبار التاريخ التي طلبت رأسه طلبت رأسي.
لم يُطرَد نزار قباني يومها من السلك الدبلوماسي، لأن المجلس النيابي كان منقسماً حيال القضية ولأن وزير الخارجية آنذاك خالد العظم وقف إلى جانبه وقال في المجلس النيابي ردًا على النواب الذين طالبوا باتخاذ إجراءات عقابية ضد القباني:
يا حضرات النواب الأعزاء أحبّ أن أصارحكم أن وزارة الخارجية السورية فيها نزاران: نزار قباني الموظف ونزار قباني الشاعر. أما نزار قباني الموظف، فملفّه أمامي وهو ملف جيد ويثبت أنه من خيرة موظفي هذه الوزارة. أما نزار قباني الشاعر، فقد خلقه الله شاعرا وأنا كوزير للخارجية لا سلطة لي عليه ولا على شعره. فإن كنتم تقولون إنه هجاكم بقصيدة، فيمكنكم أن تهجوه بقصيدة مضادّة وكفى الله المؤمنين شرّ القتال.
واليوم، إذا تعود قضايا الحريات الشخصية وحرية الملبس والمأكل، ومكانة المرأة في الفضاء العام وحقها في العمل، لتحتل حيزًا واسعًا في النقاشات والتجاذبات الدائرة في الفضاء العام داخل سورية، قد يكون من المفيد تذكير بعض أجنحة السلطات الجديدة المتزمّتة بمقولة خالد العظم بحق نزار قباني الشاعر في البرلمان السوري في أن لا سلطة له عليه، ليس فقط للتأكيد على الحق في حرية الرأي والتعبير، ولكن للتأكيد على حق السوريين في أن يكون لهم برلمان منتخب ديمقراطيًا يناقشون ويحاسبون فيه الحكومة وسياستها، لا الشعراء وكتاباتهم.