مِنْ مَطَرٍ على البحر اكتشفنا الاسم
من طعم الخريف وبرتقال القادمين من الجنوب
كأنَّنا أسلافُنا نأتي إلى بيروتَ كي نأتي إلى بيروت
محمود درويش
كانت بيروت دائماً مكاناً غريباً ومعقداً، ملجأً كبيراً، مدينة قاسية يكاد يكون الهروب منها واجباً والعودة إليها قدراً محتوماً ضمن حالة ضياع ذاتي، هي المسؤولة الأولى عنه. مدينة ارتبط البحر بصورتها البصرية. ففي شكلها الخارجي، تعطي أفقاً كبيراً، ولكن الضيق بجوهرها الداخلي هو ما يخلق تناقضاً شعورياً يجعل منها مدينة معقدة، خصوصاً في سنواتها الأخيرة.
يطرح إيلي داغر (مخرج فيلم «موج 98»، الحائز على السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي) بيروت بكل تعقيداتها بفيلمه الجديد «البحر أمامكم» من خلال حكاية الفتاة جنى التي تعود، ذات صباح باكر، من باريس إلى بيروت ومعها فقط حقيبة صغيرة. نتابع حياة جنى بعد العودة، دون معرفتنا للسبب الأساسي لعودتها إلى بيروت وتركها باريس. لكن ضمن رصد حياة جنى وبؤسها بعد العودة، ينتقل السؤال من لماذا عادت؟ إلى ماذا يحدث داخلها؟
البؤس وجه المدينة الحقيقي
ضمن حركة كاميرا داغر البطيئة، نرصد جوّ البؤس والظلمة القاتمة التي خيّمت على المدينة. ينعكس هذا البؤس على قاطنيها، فيدخل داغر في تفاصيل بؤسهم بلقطات قريبة. نلاحظ هذا البؤس حتى وهم يبتسمون ويرقصون. ويستمرّ بحث داغر عن البؤس من خلال عيون جنى العائدة إلى بيروت، والتي تشعرنا ببؤسها الوجودي المرتبط بالزمان أكثر منه بالمكان. فقد غادرت جنى باريس، ورغم عدم معرفتنا السبب المباشر لذلك، نشعر بأن السبب هو الضيق، وما من مكان تلجأ إليه إلا بيروت، الملجأ الأكثر ضيقاً.
تحاول جنى أن تعيش مع عائلتها، ولكنها لا تستطيع. فتجد نفسها مطالَبةً بمشاعر ما عادت تملكها، مطالَبةً أن تكون المُنقذ بوقتٍ تبدو فيه هي من تحتاج إلى الإنقاذ. تشهد حالة بؤس عائلتها ورتابة حياتهم المحصورة بكلامهم عن الطعام فقط، فتقرّر أن تذهب مع حبيبها السابق آدم لخوض مغامرة معه واختبار مشاعر قد اشتاقت إليها. لكنها تكتشف وجهاً بائساً آخر للمدينة وانعكاسه على قاطنيها الشباب، وجه يتجلّى في الحياة الليلية الصاخبة ومحاولات النجاة اليومية الفاشلة. يكاد يكون هذا الوجه أكثر قسوةً من وجه المدينة الرتيب الذي شهدته في منزل والديها، وهذا ما يدفعها في النهاية إلى الغضب وضرب آدم بشكل عشوائي وحاقد، بعد أن شعرت أنها محاصرة وبعيدة وغريبة جداً عنه.
الغريبة
تشبه جنى شخصية مورسو في رواية الغريب لألبير كامو. تعيش الحالة العبثية ذاتها في المدينة، وحالة الانفصال نفسها عن كل شيء حولها. تشعر أنها غريبة في كل فضاء تدخل إليه، حتى في غرفة طفولتها. وهذا العبث هو ما يدفعها إلى العنف في النهاية كما حدث مع مورسو. هي حالة وجودية عامة لجنى وجيلها. فقد عاشت جنى هذه الغربة في باريس التي يفترض أن تكون أرض الأحلام، وعادت لتعيش هذه الغربة في مدينتها بيروت التي يفترض أن تكون ملجأها الآمن.
فبالرغم من خصوصية عوالم بيروت وتفاصيلها، فإنّ رؤية جنى هي رؤية للعالم، والضيق الذي تعيشه أصبح من سمات العالم الحديث. يؤثر هذا الضيق على العلاقة مع الآخر، كما يؤثر على صورة المدينة كما أظهرها داغر بلقطاته العامة. تآكلت إطلالة البحر وخيّم عليه اللون الرمادي القاتم، وأصبح البحر غاضباً في لقطته أخيرة، قادماً لكي ينهي العالم، وقد صوّره داغر بشعرية عالية تشبه بيت شعر لنجيب سرور:
البحر غضبان ما بيضحكش… أصل الحكاية ما تضحكش
يصوّر داغر بؤس العالم المعاصر ضمن خصوصية بيروت التي يحكمها الضيق والعبث والعنف والبؤس والرتابة والمجهول. كل شيء مجهول في رؤية العالم داخل هذه المدينة، مجهول لدرجة يتشابه فيها الماضي مع المستقبل ويغيب فيها الحاضر غياباً تاماً.