يوميات الحرب على لبنان
طارق أبي سمرا

الحرب كعقاب على خطيئة نرجسيّة

2 كانون الأول 2024

أشعر بالذنب.

الحرب التي تشنّها علينا إسرائيل تُشعرني بالذنب. استغرقني الأمر أكثر من شهرين حتّى أعي ذلك. حتّى أعي أنّني أعيش هذه الحرب كقصاص أستحقّه. كأنّني ارتكبت إثماً أجهله، أو لم تسجّله ذاكرتي، فأنزل بي الله هذه الحربَ عقاباً عادلاً مُستحَقّاً. لعلّه إذاً إثمٌ فظيع، إن كان الله لم يكتفِ بمعاقبتي أنا وحدي، بل شمل في قصاصه شعباً بكامله.

في بداية الحرب، كان الشعور بالذنب متوارياً تحت سطح الوعي. كنت أشعر فقط بأنّني مقصِّر، بأنّ ثمّة شيئاً ينبغي عليّ فعله ولم أفعله. شيئاً من الضروريّ أن أفعله لكنّني أجهل ما هو. ظننت أنّني مقصِّرٌ في عملي، أنّني أتكاسل وأتلكّأ، وأنّه عليّ أن أكتب بانتظام أكبر، ولساعات أطول، وبوتيرة أسرع، وهذا ما فعلته: كتبت خلال هذه الحرب أكثر من أيّ فترة أخرى في حياتي، وقد أسرّني ذلك. لكنّ الإحساس بالتقصير بقي يُلازمني.

ثمّ صرت أشعر بوخزات طفيفة من تأنيب الضمير: عندما أرى أمّي غارقةً في القلق والخوف بلا انقطاع، أو ألاحظ أنّ أبي فقد خمسة كيلوغرامات في شهر واحد. أو حتّى حين أتابع مشاهد الدمار والقتل تتوالى على شاشة التلفزيون. لكنّها كانت وخزات طفيفة يسهل تجاهلها. وهكذا فعلت. 

إلى أن بات تجاهلها مُتعذِّراً. فقد أصبحت تلك الوخزات أشدّ إيلاماً. فصرت أستيقظ صباحاً وأنا أشعر بأنّني ارتكبت خطأ ما. ارتكبته البارحة. أو ما قبل البارحة. أو في أثناء نومي. لست أدري متى، لكنّ إحساسي يقول لي إنّني ارتكبته. وشيئاً فشيئاً، بدأت أرى أنّ أيّام الحرب الطويلة، المترعة بالقلق والخوف، إنّما هي قصاصٌ أستحقّه. ومهما قلت لنفسي إنّها فكرة عبثيّة، فإنّ الإحساس بأنّني أنال ما أستأهله كان لا يتزحزح.

هذا الدمار والموت إنّما هو عقابي: هل مِن فكرة أكثر نرجسيّة من هذه؟ أن تشعر بأنّ حرباً دمويّة ليست سوى عقابٍ على إثمٍ تجهل ما هو: هل مِن إحساسٍ أكثر تمحوراً حول الذات من هذا؟ لكنّ الأمور لم تقف عند هذا الحدّ من النرجسيّة والتمحور حول الذات، إذ بدأتُ أشعر بأنّ الحرب هي، في الآن عينه، خطيئتي وقصاصي. هذا الموت كلّه أنا مسؤول عنه: يا لهذا العماء والانغلاق على النفس، ويا لانعدام القدرة على التواصل مع ما يحصل في العالم الخارجيّ إلّا من خلال مشاعر عصابيّة وموغلة في الذاتيّة! هناك حرب طاحنة مستمرّة منذ أكثر من شهرين، وليس لديك ما تقوله سوى الحديث عن مشاعرك؟!

لكنّني، في أحيان أخرى، أكون أكثر تسامحاً مع نفسي، فأروح أتساءل: هل ما أشعر به أمرٌ استثنائيّ ونادر، أم أنّه شائع أكثر بكثير ممّا قد يُظَنّ؟ ألا يشعر كثيرون بالذنب في الحروب؟ ليس لأنهم نجوا من الموت بينما قُتِل آخرون، بل لأنّ عقلهم اللاواعي لا يستطيع إلّا أن يرى هذه الحرب كقصاص استدرجه إثمٌ ارتكبوه، لكنّهم يجهلون ما هو؟ أَوَليس النظر إلى الحرب بتجرّد وموضوعيّة وواقعيّة، أيْ بوصفها نتيجة تسلسل أحداث كثيرة ومُتشابكة لا يد لنا فيها، أليس النظر إليها على هذا النحو عسيراً جدّاً ويفوق قدراتنا في أحيان كثيرة؟ أَوَلا يزال معظم تفكيرنا تفكيراً سحريّاً، يدفعنا إلى الاعتقاد بأنّ ما يحصل في العالم الخارجي لا بدّ أن يكون مرتبطاً سببيّاً بنا، بأفعالنا وأفكارنا وآثامنا، مهما كانت تافهة؟

غريبٌ هو الإنسان، هذا الكائن الذي يرى نفسه محوَر الكون، لا بل يرى أن الكون برمّته خُلِق ليكون منزلاً له. هذا الكائن الذي تبلغ نرجسيّته حدّ الإحساس بأنّه مسؤول عن كلّ شيء، وبأنّ كلّ كارثة تحلّ به وبغيره ليست سوى عقاب على خطيئة لا بدّ أنّه ارتكبها. لكنّ الحقيقة هي أنّ معظم البشر أبرياء، تنزل بهم المصائب وتنكبهم الحروب من دون أن يكونوا قد اقترفوا أيّ ذنب. إنّهم أبرياء، لكن يبدو أنّ البراءةَ عبءٌ يصعب احتماله. فالحرب إذا لم تكن عقاباً عادلاً على إثم ارتكبْتَه، بل هبطت عليك اعتباطاً وبلا أي سبب، فإنّها تغدو أشدّ توحّشاً وجنوناً وعبثيّةً.

لعلّ الإحساس بالذنب، إذاً، يؤنسِن الحرب ويُعقلِنها. فوحده إلهٌ صار إنساناً يستطيع تحمُّلَ الصلبِ مدركاً براءته من أيّ ذنب. وحده إلهٌ صار إنساناً يستطيع التحديق في الشرّ ورؤيته على حقيقته: كشيء لا سبب له، لا مُبرِّر له، لا غاية له. أمّا الإنسان الذي لم يكن يوماً إلهاً، هذا الكائن النرجسيّ الذي يعتقد أنّ الله خلقه على صورته، ويرى في الكون منزلاً له، فإنّه لا يستطيع التحديق في الشرّ. لا يستطيع فهم الشرّ إلّا كقصاص، كعقاب على خطيئة تُعيد إلى الكون الموحش نظامَه المفقود.    


كُتِبَت هذه السطور قبل بضعة أيّام من إعلان وقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني 2024. أمّا الآن فبدأ الإحساس بالذنب يتلاشى تدريجاً، ليحلّ محلّه شعور بالذهول وعدم التصديق: أحقّاً انتهت الحرب هكذا بلمح البصر، كأنّها كانت مجرد كابوس أفقنا منه؟ فعالم اليقظة هذا، عالم ما بعد وقف إطلاق النار، لا يبدو حقيقيّاً أو مُستقِرّاً. إنّه بهشاشة حلم جميل نُدرِك، ونحن نبصره، أنّه حلم فحسب.   

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
حدث اليوم - الثلاثاء 3 كانون الأول 2024 
مصطفى الذي لم يغادر حارة حريك
03-12-2024
تقرير
مصطفى الذي لم يغادر حارة حريك
نتنياهو: وقف إطلاق النار لا يعني انتهاء الحرب 
ما هي الفصائل المُشاركة في عمليّة «ردع العدوان»؟
الراعي جمال صعب شهيدٌ جديدٌ للخروقات الإسرائيلية لوقف إطلاق النار 
قوّات الاحتلال تقتحم المستشفى التركي في طوباس