تزامن إطلاق فيلم جوكر (تود فيليبس، 2019) في الصالات اللبنانية مع اندلاع ثورة تشرين. فبات مشهد الثوّار المقنّعين إمّا بالجوكر أو بوجه سالفادور دالي من سلسلة la casa di papel أمراً مألوفاً ومحبّباً، لا بل مطلوباً.
ولعلّه من البديهيّ أن تُربط السينما بالواقع، والعكس. فالأفلام المبنيّة على قصصٍ حقيقية وناس فعليّين كثيرة، وكذلك الأمر بالنسبة لأشخاص تأثّروا بأفلام وبشخصيّاتها فألبسوها حياتهم ونقلوها من الشاشة إلى أرض الواقع.
غالباً ما يتأثّر الناس بالبطل، من دون أن يكون بالضرورة بطلاً بالمعنى الأخلاقي، بل هو أقرب إلى فكرة الرجل البطل عند نيتشه (Ubermensch). فنجد أنّ أكثر الشخصيات المؤثّرة هي تلك التي تخطّت السلوك «المقبول» و«الصحيح» اجتماعياً، واتّخذت من منظورها الخاص للعدالة والبطولة نهجاً، كشخصية ترافيس بيكل في سائق التاكسي (مارتين سكورسيزي، 1976) التي شكّلت حالةً في وقتها أدّت إلى ارتكاب جرائم مثلما فعل جون هيكلي الذي حاول اغتيال الرئيس الأميركي رونالد ريغان.
وبالمناسبة، ليس الناس الآمنون والمسالمون وحدهم من يتأثّر بالأفلام. كثيرون من أفراد العصابات أيضاً مثل الغومورا الإيطالية التي يتحدّث عنها روبيرتو سافيانو في كتابه (غومورا، 2006)، يعيشون كـطوني مونتانا في فيلم سكارفايس (براين دي بالما، 1983) أو فيتوريو ومايكل كورليوني في ثلاثية العرّاب لفرانسيس كوبولا.
بعد ثلاثة أشهر على ظهور «الجوكر» في ساحات بيروت، توقّفت الثورة مرغمةً مع تفشّي فيروس كورونا. وقد أدّى الحجر المنزلي المفروض على أغلبيّة سكان العالم إلى وضع الناس في حالٍ من الترقّب أمام شاشات التلفزيون والصفحات الإلكترونيّة، ينتظرون مخلّصاً أو بطلاً يعيدهم إلى حياتهم الطبيعية وينهي هذا الوباء الذي يصفه كثيرون بالفيلم الذي نتمنّى أن ينتهي بسرعة. ففي أيّام الشدّة، يكثر الطلب على الأبطال.
لكنّ فكرة البطل الخارق بالشكل الفنتازيّ سقطت بسرعة. فكان رجال الدين أوّل من دعا إلى الوثوق بالعلم بالأساس، والصلاة من المنازل لمن يرغب. ثمّ جاءت الإصابات في صفوف المشاهير ونجوم السينما ومن يعتبره الناس «أيقونة»، لتزيد من ضمور فكرة البطل، فلا أحد بمنأى عن الفيروس.
ولأنّ العودة إلى الحياة الطبيعية في لبنان تعني استكمال الثورة التي لم تخمد، وجد «الرجل الوطواط» فرصةً للهجوم المعاكس على «الجوكر»، وعاد ليطرح نفسه بدور البطل المنقذ.
يتميّز الرجل الوطواط عن كلّ الأبطال الخارقين بأنّ قوّته لا تأتي من قدرة غير إنسانية أو قوّة تفوق الطبيعة، بل ببساطة لأنّ الرجل خلفه، بروس واين، هو صاحب نفوذ وثروة طائلة وله تأثير في المجتمع والإعلام. هو ليس كـطوني ستارك (الرجل الحديدي) زيرَ نساء ومدمن كحول، بل هو محبّ للخير ويعود فضله على أهل مدينته إلى أيّام والده الذي قضى قتيلاً، الأمر الذي يزيد الشعور بالتعاطف مع الوطواط اليتيم صاحب التضحيات.
لا يجد الرجل الوطواط اللبناني، السياسي والمصرفي، مشكلة بالتبرّع للجسم الطبي وتقديم المساعدات العينية للمعوزين من مال الناس المنهوب والمحتجز لدى المصارف. ولا مشكلة عند إعلامه بازدراء الناس وتحقيرهم، ولا بفرض طاعة عسكرية، لأنّ لا مكان الآن لـ«الجوكر» وفوضويّته.
رهان الخفاش يبقى على الخروج من الأزمة، وإن كان تاريخه غير مشرّف كالكثير من «الأبطال». أمّا في المقابل، فيبقى رهان «الجوكر» على السخرية والتشكيك، فهما أفضل ترياق لتقدير «الأبطال» وتبنّيهم في مجتمعنا. ونحن ساخرون على الأرجح لأنّه في كثير من الأحيان تمّت خيانة مُثلنا.