لأنّنا بلا مخ وبلا مسؤولية، سنعود إلى «الحجر الصحي»، وهذه المرّة حجر أقرب إلى «الإقفال التام». فقد جاءت «الموجة الثانية» على متن طائرة لتعيدنا جميعًا إلى سلامة منازلنا وعائلاتنا في حالة من الذعر الشديد. لكنّ سبب هذا الهلع ليس الوباء العائد فحسب، بل الإجراءات ذاتها التي يفترض بها مواجهته. فتكرار الحجر يضعنا جميعًا أمام خيار المرض أو الجوع في ظلّ الأزمة الاجتماعية الخانقة، أو بكلام أوضح، أمام حتمية معاينة الانهيار التدريجي والبطيء لمكوّنات حياتنا ونحن بحالة شلل وقائي، نترقّبه مكمَّمي الأوجه ومكتوفي الأيادي المعقّمة.
لم يأتِ الحجر الثاني بظلّ الثورة وزمانها المتفجّر. فلم نعد نتحرّك على إيقاع الثورة ووعودها الخلاصيّة. لم يعد هناك طيّ لصفحة الماضي أو وعد بنظام جديد قد يزيل آثار الماضي. زال هذا الزمن، ومعه أوهامه، ليأتي مكانه «زمن التآكل»، زمن الانهيار البطيء الذي يقضي على كلّ شيء، مذوبًا بالانخفاض المتسارع للعملة.
فزمن الذوبان الماليّ هو زمن التآكل البطيء للعلاقات الاقتصادية والروابط الاجتماعية أو حتى الثبات الشخصي. لم يعد هناك أي ثبات إلّا في حتمية الذوبان.
ربّما كان وصف ماركس للرأسمالية كانقلاب متواصل في الإنتاج وتزعزُع دائم للأوضاع المجتمعية وحالة دائمة من القلق والتحرّك، يجد أقسى تجلياته في حالات الذوبان المالي. فـكلّ ما هو مقدّس يدنّس، والناس يُجبرون في النهاية على التفرّس في وضعهم المعيشي، وفي علاقاتهم المتبادلة بأعين بصيرة.
يواجه الناس بأعيُنٍ بصيرة حقيقتهم الاجتماعية كلّما احتكّوا بالسوق وأسعاره المتقلّبة، أو عاينوا عملهم وأجرهم الهابط، أو حاولوا البحث عن بعض الثبات في مستقبلهم الغامض. أيّ هزّة، مهما كانت صغيرة، باتت لها آثار ضخمة على حياة الناس، قد تؤدّي إلى وقوعهم بالفقر، إن لم يكونوا قد باتوا تحت خطّه.
فالزمن المتآكل هو زمن «الحياة المتداعية»، الحياة الهشّة والمتهاوية، حيث الفارق بين الموت والحياة هو خيار يوميّ. زمن الذوبان المالي ليس انهيارًا للرأسمالية، بل قد يكون تكثيفًا لطرق عملها، ويعمّمها في وجه بعض المكتسبات السياسية والاجتماعية التي قد تعيقها. بكلام آخر، الانهيار الحالي ليس فشلًا للنموذج الاقتصادي، بل قد يكون أداة إعادة تعويمه، من خلال إعادة انتاج أسسه الاجتماعية والاقتصادية.
لا يبدو أنّ هناك سياسة قد تنجح في مواجهة هذا التآكل البطيء للمكوّنات الجماعية لحياتنا. أو على الأقل، لم تعد تبدو الثورة وإيقاعها الردّ المناسب لسؤال الحاضر وزمنه المتآكل. فمع تدنيس كلّ ما هو مقدّس، سقطت أيضًا الثورة وزمنها.
فنحن نواجه اليوم تحدّي «الحياة المتداعية» وهشاشتها، باحثين عن علاقات اجتماعية جديدة قد تقاوم مشاريع التهميش التي باتت مستقبلنا.