تعليق نسويّة
دارين أبو سعد

العصا بلغةٍ جديدة

«العنف الإيجابي» للشيخ سامي أبو المنى

12 تشرين الثاني 2025

في أغلب ذاكرتنا، هناك عصا ما في مشهد الطفولة. قد لا تُستخدم دائماً، لكنها حاضرة، تسكن وعينا كظلّ مألوف. أتذكّر جيداً تلك العصا الخشبية التي كُتب عليها: بالعصا تُعلِّم الدبّ الرقص. كنت أحدّق في الجملة طويلاً وأسأل نفسي: أيّ رقصٍ يمكن أن يولّده الخوف؟ كانوا يسمّونها «تربية» لكنها لم تختفِ حين كبرنا. تبدّلت فقط: صارت كلمة، أو نظرة، أو موعظة من فوق منبر. انتقلت من الخشب إلى اللغة، ومن الزاوية إلى الخطاب، لكنها ظلّت تؤدّي الغاية نفسها، أن يبقى الخوف وسيلةً للتهذيب وضمانةً للبقاء على «الصراط المستقيم».

في كلمةٍ ألقاها الشيخ سامي أبو المنى، شيخ عقل طائفة الموحّدين الدروز، خلال مؤتمر بعنوان «محاكم الأسرة في العالم العرب – الوضع الراهن، التحديات ومسارات التطوير» الذي نظمته المؤسسة اللبنانية للسِّلم المدني الدائم، دعا إلى ما سمّاه «العنف الإيجابي» كوسيلةٍ لضبط الإيقاع وتصويب المسار. بدت كلماته كأنها تُعيد إحياء العصا نفسها، ولكن بشرعيةٍ جديدة.

مذهلٌ كيف تتبدّل اللغة، من العصا، إلى «من عصى»، إلى «العنف الإيجابي».

يستدعي الشيخ العادات والتقاليد والأصول الدينية ليحافظ على ما يسمّيه «تماسك الأسرة»، لكنّ ما يحافظ عليه هنا ليس الحب أو الأمان، بل التسلسل الهرمي الذي يضع الرجل رأساً للأسرة، والمرأة حارسةً لها، لا شريكةً فيها. فالعائلة، في هذا المنظور، ليست علاقة متبادلة، بل نظام انضباط تُوزَّع فيه الأدوار بدقّةٍ تضمن استمرار السلطة.

«ليس كلُّ قديمٍ بالياً، وليس كلُّ جديدٍ غالياً»

تبدو الجملة للوهلة الأولى حكمةً مألوفة، لكنها في خطاب الشيخ تتحوّل إلى شكلٍ آخر من البكاء على الأطلال، حيث يقدَّم الماضي كملاذٍ أخلاقي لا يُمَسّ. فالقديم يُربَط بالخير، والجديد يُعامَل كتهديد، ليصان بذلك نظام الامتيازات الذي يُبقي سلطة الرجل قاعدةً وتبعيّةَ المرأة فضيلةً. هكذا اذاً، يعاد تدوير الخطاب الديني في مواجهة كلّ محاولة نسوية لإعادة تعريف العدالة والمساواة، فيُتّهَم التغيير بأنه مساس بـ«الأصالة».

لكن أي أصالة هذه التي تصان بالعنف؟ وكيف يتحول «القديم» من ذاكرةٍ ينبغي قراءتها إلى درعٍ تُبرَّر به أشكال القهر؟

ينتقل سماحته من الحديث عن «الأصالة» إلى التساؤل: إلى أي مدى يمكن أن تصل حدود مطالب المرأة بحقوقها؟ ألا تتضارب هذه الحقوق مع واجباتها الأسرية؟

سؤال يطرحه بنبرةٍ هادئة، لكنه في جوهره تذكير بأنّ دور المرأة يجب أن يبقى داخل البيت، وأنّ أي مطالبة بالحقوق تُعَدّ تجاوزاً لمسؤولياتها «الطبيعية».

ما يقوله الشيخ لا يقف عند حدود رأيه الشخصي، بل يعكس اتجاهاً أوسع في الخطاب الذكوري المعاصر، حيث يُستدعى الماضي كمرجعية أخلاقية لمواجهة التحوّلات التي فرضتها الحركة النسوية.

تُقدَّم «الأصالة» كضمانةٍ للاستقرار، لكنها في الواقع تُستخدَم لإحياء نظام هرمي فقد شرعيته، واستعادة سلطة تهتز كلما اقتربت النساء من المساواة.

هكذا يعود «القديم» بثيابٍ جديدة، يرفع شعار التوازن ليخفي خوفه من الحرية، ويحوّل مكاسب النساء إلى تهديدٍ للنظام القائم، إذ يُعاد تعريف المستقبل لا كمجالٍ للتحرّر، بل كأداةٍ لضبط الحاضر وتثبيت السلطة.

العنف كفضيلةٍ أخلاقيّة

في حديثه عن «العنف الإيجابي»، يمنح الشيخ العنف بعداً أخلاقياً، فيتحوّل من جريمةٍ إلى واجبٍ تربوي. من يملك حقّ «تصويب المسار»؟ الرجل طبعاً، بكل أدواره: الأب، الزوج، الشيخ، كلّ من يحتكر تعريف الصواب. بهذا الخطاب، تمحى الحدود بين الحماية والسيطرة، وتعاد صياغة الهيمنة كـ«رعاية». فالمرأة التي تعاقَب تصوَّر كـ«خاطئة تحتاج إلى الإصلاح»، والرجل الذي يضربها يكافأ بوصفه «مربّياً صالحاً». هكذا يصبح الأذى واجباً تربوياً لا يدان. فيختلط الحب بالأذى، والواجب بالهيمنة، والرعاية بالعقاب.

كلام الشيخ ليس معزولاً عن واقعنا اليوم، بل هو امتداد له، استمرار للعنف نفسه ولكن بلغةٍ مقنّنة.

في البيوت، في المحاكم، وعلى شاشات التواصل الاجتماعي، يُعاد إنتاج المنطق ذاته الذي يبرّر الأذى باسم التربية أو الإصلاح أو الحبّ.

من يمارس العنف يُنكره أو يختبئ خلف مبرّراته، ومن ينظِّر له يمنحه شرعيةً أخلاقية، فيلتقي الخطابان عند الفكرة نفسها: أن تقييد النساء يقدَّم كحماية، وأن السيطرة تجمَّل باسم «الرعاية» و«الحرص».

والنتيجة واحدة: نساء يعَنَّفن ثم يشَكَّك في شهادتهن، يسألن عن سلوكهن، عن نبرتهن، عن سبب استفزازهن، بينما يمنَح المعنِّف حقّ الدفاع عن نفسه. يبرَّر له الغضب، ويفسَّر العنف كـ«ردّ فعل»، أو «سوء تفاهم»، أو «حادثة فردية» لا تستحق الضجيج.

أحياناً يُنكر العنف بالكامل، وأحياناً يُجمَّل، وأحياناً يُؤدلَج كما فعل الشيخ، ليصبح أداةً للتربية ووسيلةً للإصلاح.

من المنبر إلى الشاشة، تمتدّ السلطة نفسها، سلطة الرجل التي تحتمي بالدين حيناً وبالشرف حيناً آخر، وتعيد تعريف العنف لا كجريمةٍ تُدان، بل كحقٍّ يمارَس باسم النظام الأخلاقي للأسرة والمجتمع.


عودة العصا

في ختام خطبته، استشهد الشيخ بآيةٍ من سورة البقرة: ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون. لكن حين تُستخدَم الآية لتبرير الأذى، تتحوّل الحياة التي يتحدّث عنها إلى طاعةٍ قسرية، والخوف إلى نظام تربويٍّ مقدّس. وهكذا تعود العصا، التي كتب عليها يوماً «بالعصا تُعلَّم الدبّ الرقص»، بلغة جديدة، تُرفع باسم الدين مرّة، وباسم «الإصلاح» مرّة أخرى، لكنها في كل مرة تذكّرنا بأن العقاب لم يخرج من حياتنا بعد، بل صار أكثر اتساعاً. ولأن هذا النظام لا يقف عند حدود المنابر أو القوانين، بل يمتدّ إلى تفاصيل الحياة اليومية، أفكّر أحياناً في الأمومة، لا كتناقض مع الحرية، بل كامتدادٍ لها حين تكون خياراً لا فرضاً.

ثم أتذكّر أمّي التي قضت ثمانية عشر عاماً تحاول أن توازن بين واجب مفروض وحقّ مؤجَّل، بين الحفاظ على العائلة وحماية نفسها. أفكّر بالنساء اللواتي يُحبَسنَ داخل معادلة «حرمة المنزل» و«اتحمّلي كرمال الولاد».

لكن في النهاية، ليست المشكلة في الأمومة، بل في العصا نفسها،  تلك التي انتقلت من يد تهدّد إلى منظومةٍ تربّي، وتعلّم النساء الصبر باسم الفضيلة، تماماً كما يعلَّم الدبّ الرقص.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 5/12/2025
70,000 م2 من الأملاك العامة البحرية عادت إلى اللبنانيين بقرار قضائي
ياسر أبو شباب: نهاية عميل
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
04-12-2025
أخبار
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
04-12-2025
تقرير
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
وقائع اجتماع «الميكانيزم»: المنطقة العازلة أوّلاً