تحليل نسويّة
دارين أبو سعد

أن يجد البيت طريقةً ليظلّ بيتاً

عن الأمان كما تعرّفه النساء

15 تشرين الأول 2025

«كيف بدنا نعيش بلا أمّ وبيّ؟»

قالها طفلٌ في تشييع والديه، حسن عطوي وزينب رسلان، بعدما أنهى يومه الدراسي وبقي مع شقيقته ينتظران السيارة التي لم تصل.

قبل دقائق فقط من اللقاء، كانت زينب قد توقّفت مع زوجها أمام محل صغير على طريق زبدين في النبطية. نزلت لتشتري شيئاً، بينما بقي حسن، الجريح من مجزرة البيجر، ينتظرها في السيارة. وحين عادت وجلست إلى جانبه، أطلقت طائرة إسرائيلية صاروخين موجّهين أصابا السيارة مباشرة. أظهرت المشاهد أنّ الغارة تعمّدت استهداف الأمّ أيضاً، إذ انتظرت الطائرة خروج زينب من المحل وصعودها إلى السيارة قبل أن تُطلق النار، في جريمة مقصودة ضدّ امرأة كانت عائدة إلى أطفالها.

في هذه المسافة الصغيرة بين المدرسة ومكان القصف، يكمن جوهر الحرب كما تعرفه نساء هذه الأرض: حرب على تفاصيل الحياة اليومية نفسها، على لحظة اللقاء بين أمّ وولديها، على طريق المدرسة، على فكرة البيت، على انتظار الأطفال لأهلهم، على تلك اللحظة البسيطة التي كان يفترض أن تكون أكثر لحظات العالم أماناً. بهذا المعنى، تصبح الحرب بنيةً دائمة تتحكّم بإيقاع اليوم، وتحوّل كل لحظة طبيعية إلى احتمالٍ للغياب. وفي هذا التحوّل تحديداً، يمكن قراءة كيف تغيّر معنى الأمان في العالم العربي، وكيف يعاد تعريف مفهوم «السلام» من خلال الأمهات والنساء، ليس كمصطلح سياسي، بل كجسدٍ مهدّد، وعاطفةٍ مراقبة، ودور اجتماعي محاصر.


فلسطين: فرح تحت المراقبة

في فلسطين، يعاد تعريف الفقد كل يوم بطريقة جديدة. الحرب لا تنتهي بانتهاء القصف، بل تستمرّ في مطاردة الأمان. في اللحظة التي يُفترض أن تكون لحظة خلاص، تتدخّل إسرائيل لتعيد تعريفها على طريقتها: لا عودة كاملة، لا فرح بلا شروط، ولا أمّ تضمن أن ترى ابنها حتى لو تواجد اسمه في صفقة التبادل. في رام الله، انتظرت عشرات العائلات أبناءها المفرج عنهم ضمن صفقة التبادل الأخيرة. نساء خرجن قبل الفجر، حملن الحلويات والثياب الجديدة. لكن الاحتلال غيّر القوائم في الساعات الأخيرة، وأبعد اثني عشر أسيراً عن وطنهم. هنا، تحوّلت لحظة الأمان المنتظرة إلى صدمة جديدة.

ابتسام، أخت الأسير محمد عمران، كانت تحمل حقيبة فيها قميص جديد وأمل عمره ثلاثة وعشرون عاماً، قبل أن تكتشف أن اسم شقيقها أزيل من قائمة المفرج عنهم. قالت: الاحتلال يصرّ أن ينقص فرحتنا حتى النهاية. وفي بيت آخر في نابلس، اقتحم الجنود منزل أمّ أسير مفرج عنه، وهدّدوها إن فرحت أو احتفلت بعودته. صار الفرح جريمة تعاقَب عليها الأمهات في فلسطين. بهذا المعنى، لا تكتفي إسرائيل بالتحكّم بالحياة والموت، بل تتحكّم حتى في الإحساس بالأمان. علّمتنا أن نخاف الفرح، وأن نحذر الأمان. 

في غزة، مشهد آخر يختصر كلّ هذا: أمّ فلسطينية تمسك بقطعة شوكولاطة ذائبة بعد انتظار ابنها لعامين في الأسر، وحين قيل له: يلا، خذ الشوكولاطة من ماما، اقترب منها وقبّلها وهو يقول: إنتِ الشوكولاطة، إنتِ. ذابت الشوكولاطة بين أصابعها، لكن ما تبقّى منها كان هو الأمان نفسه، ذاك الذي لا يُصنَع من اتفاقات، بل من العناق، من العودة، من يد تلمس أخرى بعد الغياب. هو تلك اللحظة التي تحاول فيها الأمهات إنقاذ ما يمكن إنقاذه من معنى الحياة، وسط عالم يصرّ على شيطنتهنّ وتجريدهنّ من إنسانيتهنّ.


مصر: الأمومة كمقاومة

عقبال أولاد الناس كلها، قالتها ليلى سويف، والدة علاء عبد الفتاح، بعد الإفراج عنه من سجون النظام. جملة بسيطة تختصر معاناة آلاف الأمهات العربيات، لكنها أيضاً تكشف تحوّل الأمومة في زمن الدولة الأمنية: من علاقةٍ شخصية إلى فعلٍ عام. ليلى التي خاضت واحداً من أطول الإضرابات عن الطعام في تاريخ مصر الحديث، جعلت من جسدها ساحةً للمقاومة في وجه سلطةٍ لا تترك للناس سوى أجسادهم ليعترضوا بها. هنا تصبح الأمومة، حين تصرّ على الحياة والعدالة، فعلاً سياسياً بحدّ ذاته. كأنّ ليلى كانت تتحدث عن الأمهات الفلسطينيات أيضاً، عن اللواتي ينتظرن أبناءهنّ خلف القضبان أو على المعابر، وعن اللواتي يختبرن الفرح الممنوع ذاته. في العالم العربي، يبدو أن الأمومة صارت الشكل الأخير للمقاومة.


سوريا: حين يُختزل الأمان في رؤية الأبناء

في سوريا، عاش الناس سنوات طويلة تحت نظام ديكتاتوري عنيف فرّق العائلات وملأ البلاد بالخوف والمخبرين والسجون. وحين سقط ذلك النظام، تنفّسوا للمرة الأولى، مؤمنين أن مرحلةً جديدة ستبدأ، وأنهم تخلّصوا أخيراً من آلة القمع القديمة. لكنّ الحكومة الجديدة التي جاءت باسم «الشرع»، سرعان ما أعادت إنتاج الخوف ذاته. رفعت شعارات الحرية والإصلاح، ثم أعادت العنف إلى الشوارع نفسها: مجازر في السويداء، مجازر في الساحل، واعتقالات وخطف يومي تدار بها البلاد. ومع امتداد هذا الرعب المستمر، تغيّر معنى الأمان. لم يعد الأمان يعني العدالة أو التغيير، بل مجرّد أن يعيش الناس بلا خوفٍ مباشر، وأن يتمكّنوا من رؤية أولادهم. في الشوارع اليوم، نسمع من الأهالي: ما عم نتابع سياسة، المهم صرنا نقدر نشوف ولادنا. ليست هذه جملة عابرة، بل خلاصة جيل أنهكه الخوف حتى صار الامتناع عن السياسة شكلاً من أشكال الحماية. هكذا يصنع العنف مجتمعه الجديد: مجتمع أنهكه الأمل، يختزل العدالة في لحظة لقاءٍ بين أمّ وولدها، ويجعلنا جميعاً ماشيين الحيط الحيط ويا ربّ السترة.


الأمان كما تعرفه النساء

من خلال تجارب النساء تحديداً، يمكن قراءة هذا التحوّل في معنى الأمان. فالحرب في منطقتنا تستهدف أيضاً النساء اللواتي يصنعن استمرار الحياة. أجساد النساء تحوّلت إلى ميدانٍ للحرب، لأنهنّ يحملن ما تحاول الأنظمة والاحتلالات تدميره: الذاكرة، والرعاية، والبيت. لأنهنّ يمثّلن المعنى العميق لما يُراد محوه: فكرة الحياة ذاتها. ومع ذلك، النساء هنّ من يُعِدن تعريف الأمان من جديد، من خارج القاموس العسكري والسياسي المفروض علينا. فالأمان عندهنّ ليس وقف إطلاق النار فقط، بل أن يبقى الجسد حيّاً رغم الجرح، وأن يجد البيت طريقة ليظل بيتاً رغم الخراب، وأن يواصل القلب القدرة على الاحتمال. لكن في المقابل، يواصل العالم إنتاج معانيه الزائفة للسلام. تُمنَح الجوائز والاعترافات لنساء يبرّرن الحروب باسم الديموقراطية، بينما تُقتل النساء المقاومات لأنهنّ يمارسن أبسط أفعال السلام:  أن يعشن، أن يربّين، أن يعدن إلى البيت.


العودة إلى السؤال الأوّل

حين سأل الطفل كيف بدنا نعيش بلا أم ّوبيّ؟، لم يكن يسأل عن نفسه فقط، بل عنا جميعاً، عن شعوبٍ تُحرَم من أمانها، وتُجبَر على التعايش مع الخسارة كحالة دائمة. في هذه الأرض، لا يُعرَّف السلام باتفاقياتٍ ولا بجوائز، بل بالقدرة على أن يعود طفل إلى بيتٍ فيه أمّ وأب. الأمان هو أن تبقى للحياة تفاصيلها الصغيرة: الطريق، المدرسة، الشوكولاطة، واللقاء. 

كلّ ما عدا ذلك، هو مجرّد هدنة مع القتل. 

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
70,000 م2 من الأملاك العامة البحرية عادت إلى اللبنانيين بقرار قضائي
ياسر أبو شباب: نهاية عميل
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
04-12-2025
أخبار
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
04-12-2025
تقرير
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
وقائع اجتماع «الميكانيزم»: المنطقة العازلة أوّلاً
الطفلة إيّان هُدم منزلها: وين نلعب؟ وين نعيش؟