تعليق نسويّة
دارين أبو سعد

العنف المزدوج ضدّ النساء في النزاعات

بين الاستباحة والإنكار

22 أيلول 2025

قبل أن يبدأ المشهد، ينبّهنا إنستغرام لِما سيأتي: محتوى حساس. 
تحذيرٌ آليٌّ يقدّم الجريمة كصورة يمكن تجاوزها بلمسة إصبع. لكن ما يُسمّى «حسّاسًا» هنا هو فعل قتلٍ علني، يُرتكب أمام العالم ويُختزل في خانة على الشاشة. هذا الإخفاء ليس بريئاً، بل جزء من ماكينة أكبر تحوّل العنف إلى مادة بصرية، وتقصي معناه السياسي: الاستهداف الممنهج والإفلات من العقاب.

خلف هذا التحذير البارد، كان ينتظرنا مشهد لا يمكن لأي فلتر أن يحجبه: 

جسد قسمة علي عمر، الشابّة السودانية من دارفور، معلّق على جذع شجرة. جسد يتدلّى عمدًا ليُرى، ثوب أحمر ممزّق يلتفّ من حوله، ساقاها مشدودتان إلى بعضهما بحبل ويداها مقيّدتان خلف ظهرها إلى نقطة التعليق نفسها، فيما ينحني رأسها إلى الأمام كأنّه يسقط تحت ثقل جسدها. خلفها الطبيعة: أرض ممتدّة، أشجار صامتة، سماء مفتوحة. 

هذا التناقض بين سكون المكان وفظاعة الجريمة يضاعف من وقع المشهد: جسد وحيد معلّق في الهواء، يختصر تاريخًا من استباحة النساء وتحويل أجسادهنّ إلى رسائل للترهيب.


من دارفور إلى سوريا، عنف ممنهج يتكرّر

منذ اندلاع الحرب السودانية عام 2023، لم يعد العنف الجنسي والجسدي مجرّد نتيجة عابرة للصراع، بل أصبح وسيلةً ثابتةً لقوّات الدعم السريع للسيطرة والإخضاع. تشير تقارير الأمم المتّحدة إلى أنّ ربع سكّان السودان مهدّدون بالعنف القائم على النوع الاجتماعي. ومع النزوح الجماعي وانهيار النظام الصحّي، تتّخذ الانتهاكات أشكالًا متعدّدةً: من الاسترقاق الجنسي إلى الزواج القسري، ومن الحمل القسري إلى الخطف والاتجار بالبشر. لكن ما تظهره الأرقام ليس إلّا جزءًا من الحقيقة. فالواقع على الأرض أوسع وأقسى بكثير. في الأسابيع الأخيرة فقط، وثّق «المركز الإفريقى للعدالة ودراسات السلام» جرائم اغتصاب واعتداءات طالت فتياتٍ ونساءً في مخيّم «كلما» بجنوب دارفور، لتؤكّد أنّ العنف الجنسي أصبح القاعدة اليومية للنساء. 

هذه الوقائع ليست معزولة، بل تأتي ضمن سياق أوسع ترسمه تقارير الأمم المتحدة، التي سجّلت ارتفاع بنسبة 25% في عدد الانتهاكات الجنسية الموثّقة عام 2024 مقارنةً بالعام السابق. فالنمط نفسه يتكرّر في سوريا، حيث رصدت «لجنة التحقيق الدولية المستقلة» أشكالًا متعدّدةً من العنف: من اختطاف النساء إلى الاعتداءات الجنسية والقتل على أساس طائفي. ولم يكد التقرير يصدر حتى شهدت مدينة سلحب في ريف حماة جريمة اغتصاب جماعي لفتاة عشرينية، في واقعة كشفت حجم الانفلات الأمني واستباحة الأجساد.

النمط واحد: 

كلّما تفكّك الأمن وتحوّلت الأحياء إلى ساحات صراع، تكون النساء أول من يُستهدف، وتتحوّل أجسادهنّ إلى ساحة لتصفية الحسابات وإرسال الرسائل السياسية. موقع النساء في النزاعات ليس على الهامش كما يُصوَّر غالبًا، بل في قلب المعركة: حيث يتحوّل الجسد إلى سلاح حرب، وحيث يتضاعف ثمن النجاة عليهنّ وحدهنّ.


بين الانتهاك والانتحار

هنا، يظهر الوجه الأكثر قسوةً للحرب في دارفور. شهادات النازحات تفوق قدرة الوصف: بعضهنّ نُجّين بالرشوة، وأخريات اختفين في مصير مجهول. أمّهات شهدن اغتصاب بناتهنّ أمام أعينهنّ، ونساء رُبطن إلى الأشجار أو اعتُدي عليهنّ في المخيّمات والبيوت والحقول. قصص متكرّرة تكشف أنّ أجساد النساء تُحوَّل إلى ساحة حرب، حيث يتنقّل العنف من بيت إلى مزرعة وصولًا إلى المخيم.

لكنّ الأذى لا يتوقّف عند حدود الجسد. ففي غياب الدعم النفسي والحماية الاجتماعية، ومع ثقافة تُلقي بالوصمة على الضحية بدل المجرم، تُحاصَر النساء بين الخوف والعار والصمت. لذلك لم يكن مستغربًا أن تختار أكثر من 135 امرأةً إنهاء حياتها منذ بداية الحرب، كأنّ الحرب قرّرت أن تعاقبهنّ مرتين: أولًا بالاغتصاب، وثانيًا بدفعهنّ إلى الانتحار. وهكذا تتحوّل المأساة من أجساد منتهَكة إلى أرواح مقتولة في صمت، بلا عزاء ولا عدالة، ومن دون أي اعتراف بأنّ ما يحدث ليس «أضرارًا جانبيةً» للحرب، بل جريمة ممنهجة ضدّ النساء.


العنف المزدوج

ما تتعرّض له النساء في دارفور لا ينتهي عند حدود الفعل الجسدي. فالعنف هناك يتجلّى على مستويين متوازيين. الأوّل هو العنف المباشر، حيث تُمارَس أبشع الانتهاكات على أجساد النساء من قتل واغتصاب وتعليق علني. والثاني، وهو لا يقلّ قسوةً، ويتمثّل في العنف الإنكاري: حين تُقدَّم الجرائم كحوادث فردية، أو تُختزل في لغة الإحصاءات الباردة، أو تُمحى خلف بيانات «القلق العميق». بهذا، تُسلَب الضحايا من أبسط حقوقهنّ: الاعتراف بكونهنّ ضحايا، والاعتراف بأنّ ما جرى هو جريمة.

هذه المضاعفة في العنف، بين الفعل الوحشي ومحوه خطابيًا،  ليست جديدةً. لقد شكّلت تاريخيًا ساحة صراع مركزية للفكر النسوي، الذي لطالما حارب ضدّ آليات الإنكار والتعتيم. فالنسوية لم تكن فقط مواجهة للعنف الجسدي والجنسي، بل أيضًا مقاومة للخطابات التي تحاول إنكاره أو تبريره أو تقليله. لذلك، فإنّ ما يحدث في دارفور اليوم ليس استثناءً، بل يتكرّر في نزاعات كثيرة من سوريا إلى فلسطين: حيث تُحوَّل أجساد النساء إلى ميدان للصراع، وتُحاصَر الضحايا مرّتين: مرّة بالعنف المباشر، ومرّة بالصمت والإنكار.

قصص النساء من دارفور وسوريا وفلسطين وغيرها تكشف أنّ الحرب لا تكتمل من دون استباحتهنّ. والإقرار بهذه الحقيقة ليس تفصيلاً، بل شرط لأي عدالة حقيقية، بعيدًا عن بيانات القلق وأوهام الحياد.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 5/12/2025
70,000 م2 من الأملاك العامة البحرية عادت إلى اللبنانيين بقرار قضائي
ياسر أبو شباب: نهاية عميل
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
04-12-2025
أخبار
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
04-12-2025
تقرير
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
وقائع اجتماع «الميكانيزم»: المنطقة العازلة أوّلاً