تعليق سوريا
دارين أبو سعد

الخطف كسياسة حُكم على أجساد النساء

20 آب 2025

أنا ماني هربانة مع حدا وبحب أهلي كتير وما في مشاكل بيني وبينهم وما بدي اتعلم خياطة ولا مكياج ولا تصفيف شعر وإذا اختفيت فأنا مخطوفة.

تسجّل فتاة في الساحل السوري هذا المقطع يومياً على هاتفها، وترسله إلى والدتها وصديقاتها قبل مغادرة المنزل إلى العمل، كخطوة استباقية تنفي عبرها أيّ شبهة هرب إن اختفت فجأة. لم يعد ذلك سلوكاً فردياً، بل تحوّل إلى «إجراء وقائي» تتّبعه فتيات ونساء في اللاذقية وطرطوس، كما في السويداء، بعدما صار احتمال الخطف جزءاً من روتين الحياة اليومية، وأصبحت الرواية المسبّقة وسيلة الدفاع الوحيدة في مواجهة خطاب جاهز يبدأ عادة بجملة: أكيد هربت بإرادتها.

يكشف هذا النوع من التسجيلات حالة الرعب التي تسيطر على النساء في مناطق مختلفة، حيث لم يعد الخطف حدثاً استثنائياً بل ممارسة تتكرّر وتوثَّق في التقارير، في ظلّ إهمال السلطات لها وتقديمها للرأي العام بوصفها «سلوكاً شخصياً» أو «قراراً عاطفياً». هكذا تُسلب المرأة حقوقَها مرّتين: مرّة عند انتزاع جسدها قسراً، ومرّة أخرى حين تُسلب منها صفة الضحية، وتحمَّل مسؤوليّة اختفائها.


اختطاف النساء: أرقام لا تريد السلطة الاعتراف بها

تأتي هذه الحالات الموثّقة بعد شهور قليلة على تشكيل السلطة السورية الانتقالية التي ارتكبت قوّاتها وميليشياتها مجازر الساحل والسويداء، حيث جرى التعامل مع النساء كـ«غنائم حرب» وسبايا. لذا لا يُنظَر إلى موجة الخطف الحالية كظاهرة أمنية عشوائية، بل كامتدادٍ للعنف المنظّم الذي تستخدمه هذه الفصائل لإحكام السيطرة على المجتمع في المرحلة الانتقالية.

تشير المعطيات الصادرة عن وكالات دولية وحقوقية إلى توثيق ما لا يقلّ عن 70 حالة اختطاف لنساء وفتيات سوريات خلال الفترة الممتدة بين شباط وتموز 2025، تتراوح أعمار الضحايا فيها بين 3 و40 سنة، خطفت معظمهنّ من منازلهن أو أثناء توجههنّ إلى الدراسة أو العمل، في أماكن يُفترض أنها آمنة. وتُظهر شهادات ناجيات، جمعتها منظمة العفو الدولية، تعرُّض المختطفات للضرب والتخدير، كما تشير إلى حالات إجبار القاصرات على الزواج القسري وتهديد المتزوجات بالطلاق من أجل «شرعنة» احتجازهنّ بوصفهنّ زوجات للخاطفين، وصولاً إلى التهديد بالقتل إذا ما حاولنَ الإفصاح عمّا جرى لهنّ.

يوثّق المرصد السوري لحقوق الإنسان، بدوره، 74 حالة اختطاف مؤكدة في الساحل السوري وحده، عادت من بينهنّ 41 امرأة فقط، بينما بقِيَـت 33 في عداد المفقودات. تشير التقارير المتقاطعة إلى أن كثيرات من العائدات أُجبرن على الصمت أو مغادرة بيوتهن قسراً، خوفاً من إعادة خطفهن أو «معاقبتهنّ» بسبب ما تعرّضن له. وفي السويداء، سُجّل أكثر من 80 حالة اختفاء لنساء وفتيات منذ مطلع 2025، ترافقت بعض الحوادث مع وقائع عنف جنسي، كالتي كشفتْها حادثة حي الكوم في 17 تموز عن اغتصاب أمّ وثلاث من بناتها بعد انسحاب قوى الأمن من المنطقة.

ورغم تصاعد هذه الوقائع التي تبدأ بنداء استغاثة وتنتهي بصمت قسري، أعلنت الحكومة السورية الانتقالية منتصف تموز أنها لم تتلقَّ أيّ بلاغ رسمي بشأن اختفاء فتيات أو نساء، في خطاب إنكاريّ يعيد إنتاج الخوف، ويحوّل الخطف من جريمة علنية إلى سرّ فردي تتحمّله النساء وعائلاتهنّ وحدهم. 

في جوّ من التواطؤ الصامت، تتحوّل الأجهزة الأمنية من جهة يفترض بها حماية النساء، إلى شريك فعليّ في إنتاج مناخ الخوف. فهي تغضّ النظر عن العصابات المحسوبة عليها أو على ميليشيات محليّة، وتتعامى عن بلاغات الخطف، لتُبقي الجريمة في خانة «الاحتمالات الشخصيّة». بهذه السياسة، لا يصبح الخطف مجرّد جريمة تُرتكب في الظل، بل آليّة حكم تُستخدم لإعادة ضبط أجساد النساء داخل الحدود التي يحدّدها العُرف والسلطة، حيث يعامل مجرّد خروجهن إلى الدراسة أو العمل فعلاً يحتاج إلى «تبرير».

كيف تُعاد كتابة الجريمة؟

قصة مي سلّوم، الأمّ لثلاثة أطفال، والتي اختفت من طرطوس في حزيران الماضي، تُعدّ أحد أكثر الشواهد إرباكاً. إذ ظهرت بعد أيام في أحد أقسام الشرطة، ثم اختفت مجدداً، قبل أن تعود في شريط مصوّر تقول فيه إنها بخير، عند صديقتها في حلب، ولم تتعرّض للخطف. غير أنّ عائلتها نفت الرواية، مؤكدة أنّ مي خُطفت، وأنّ الفيديو جرى تسجيله تحت التهديد.

في مقاربة الأجهزة الأمنية، تُختصر القضية بعبارة قالها أحد الضباط لعائلتها: ابنتكم ليست قاصراً، وإذا أرادت الذهاب مع مَن تُحب، فهذا شأنها. هكذا يتحول الخطف إلى «خيار عاطفي»، وتُعاد كتابة الجريمة بوصفها قصة هرب، بينما يغلق الباب أمام ملاحقة الجهات التي يُعرف تورّطها في الاختفاءات.

ليست مي سلّوم وحدها. فظهور النساء في تسجيلات «نفي الخطف» بات جزءاً من آلية السيطرة: تُجبر الضحية على تأدية دور «الهاربة»، كي لا تُتّهم السلطات بالتقصير أو يُتّهم الخاطف بما ارتكبه فعلاً. إنها مرحلة جديدة من العنف، لا تتوقف عند الجسد، بل تنتقل إلى صناعة السردية ذاتها.

حين يتحوّل الاختفاء إلى سياسة جندريّة

اختفاء النساء في سوريا ليس حادثة ظرفية، بل واحدة من أدوات السيطرة على الفضاء العام.

فالجسد الأنثوي يعامَل اليوم كساحة مفتوحة للعقاب السياسي والاجتماعي، ضمن منظومة عنف قائمة على النوع الاجتماعي تعيد فرض حدود الحركة والصوت والظهور على النساء. الجريمة لا يقترفها الخاطف وحده، بل يعاد إنتاجها عبر خطاب رسمي ينكر وإعلام يهمّش ومجتمع يطالب الضحية بإثبات أنها لم تتسبّب باختفائها. في ظل هذه المعادلة، يصبح الصمت، هو الآخر، أداة من أدوات الحكم، فلا يعود الاختفاء استثناءً مؤقتاً، بل دليلاً على كيفية إنتاج الدولة للظروف التي تجعل من اختفاء النساء حدثاً قابلاً للتبرير، وليس جريمة تستحق التحقيق والعقاب.

عندما تجبَر النساء على تسجيل فيديوهات قبل أن يُخطفنَ ليؤكدنَ أنهنّ «لسنَ هاربات»، وعندما يطلَب من الناجيات الصمت كي لا يتعرّضنَ للقتل بعد العودة، فهذا يعني أن الخوف لم يعد مرتبطاً بالجريمة، بل بفضحها. في هذه المعادلة، ينهار الحدّ الفاصل بين الخطف كفعل فردي والخطف كسياسة جندرية وأمنية ومجتمعية.

ما لم يُكسَر هذا الصمت، ويُعاد تعريف المختطفة بوصفها شاهدة على جريمة سياسية لا متّهمة بسلوك فردي، سيبقى الاختفاء وسيلة من وسائل الحكم، وستبقى النساء في سوريا يسجّلنَ وصاياهنَّ كل صباح، قبل أن يقرّر أحدهم محوهنَّ من الصورة، ثمّ الطلب منهنّ أن يُقسِمنَ بأنهنّ ذهبنَ «بملء إرادتهنّ».

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 5/12/2025
70,000 م2 من الأملاك العامة البحرية عادت إلى اللبنانيين بقرار قضائي
ياسر أبو شباب: نهاية عميل
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
04-12-2025
أخبار
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
04-12-2025
تقرير
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
وقائع اجتماع «الميكانيزم»: المنطقة العازلة أوّلاً