تصل شابة حاملةً حقائب سفرها إلى أمام السفارة اللبنانية في دبي حيث تجري عملية الاقتراع لغير المقيمين. يعلو الترحيب والتصفيق من قبل طابور المواطنين اللبنانيين المنتظرين للإدلاء بأصواتهم.
في المقابل، يهتف عشرات الشبان من أمام السفارة اللبنانية في ألمانيا لرئيس حركة أمل نبيه بري، مُطالبين بتحويل «برلين» إلى «الشياح».
وبين المشهدين، الكثير من صناديق الاقتراع التي ساهمت بتحقيق الخروقات الانتخابية للوائح المعارضة، وفي مقدمتها خرق النائب المنتخب فراس حمدان عن المقعد الدرزي في دائرة الجنوب الثالثة الذي ما كان ليحدث لولا الصوت الاغترابي.
شكّلت الانتخابات لغير المقيمين علامة فارقة في نتائج الانتخابات النيابية. تولّد هذا الانطباع فور الانتهاء من انتخابات الخارج وقبل صدور نتائجها، وهذا ما دفع المرشحَيْن عن دائرة الشوف - عاليه مارك ضو وحليمة قعقور لتأكيد فوزهما بعد مواكبتهما عن قُرب للانتخابات في الإمارات العربية المتحدة.
الانتخابات والهجرة الجديدة
أدى الانهيار الاقتصادي والمالي إلى موجة هجرة جديدة، مما زاد من عدد المغتربين المتضرّرين من أرباب النظام السياسي اللبناني. فهذه الهجرة لم تكن نتيجة حرب إسرائيلية كما هي حال هجرة أهالي الجنوب إلى أفريقيا في ثمانينات القرن الماضي، ولا نتيجة هجرة المسيحيين نتيجة الحرب الأهلية، كما أنها لم تأتِ بهدف البحث عن سُبل حياة أفضل. جاءت تلك الهجرة بنيّة الهروب من الواقع الذي وصلت إليه البلاد، واستُخدمت في عملية الهروب هذه كل الطُرق والأساليب وصولاً لقوارب الموت التي تنطلق بشكل شبه يومي حاملةً معها مئات اللبنانيين الذين يفضّلون خوض غمار البحر على البقاء في بلد يُعاني ما يُعانيه من أزمات بسبب نفس المسؤولين الذين أعادوا ترشيح أنفسهم إلى الانتخابات.
وبكل ثقة، يطلبون من هؤلاء المهاجرين إعادة انتخابهم.
مقارنة حسمت الخيار
شكّل المغتربون دفعاً كبيراً للوائح المعارضة، وهم الذين ما انفكوا يُقارنون بين بلدهم الأمّ والبلدان التي يعيشون فيها.
فكيف يمكن لمن يشاهد سانا مارين التي تبوأت منصب رئاسة الوزراء في فنلندا عن عمر 34 عاماً، أن يذهب للاقتراع لصالح نبيه بري الذي بات يحمل لقب صاحب أطول ولاية في رئاسة مجلس النواب في العالم.
وكيف يمكن لمن يُشاهد البنى التحتية في أسوأ البلدان الخارجية أن يختار رئيس مجلس الجنوب على مدى 30 عاماً قبلان قبلان.
وكيف يمكن لمن يتنعّم بالتيار الكهربائي دون أي انقطاع أن يختار جبران باسيل أو ندى البستاني أو سيزار أبي خليل.
وكيف يمكن لمن يُشاهد البرامج الانتخابية في الخارج أن يختار من اقتصر شعاره على «نحن فينا» دون أي رؤية اقتصادية للأزمة الحالية.
وكيف يمكن لمن ينتقل بين الدول الأوروبية عبر شبكات المواصلات المتطورة أن يختار من يعد بإنشاء مترو ونفق وهو عاجز عن تعبيد طريق واحدة.
وكيف يمكن لمن تهجّر أن يتكبّد عناء الانتقال إلى سفارة لبنانية لاختيار مسؤولين كانوا سبباً بهجرته.
تكوين شتات سياسي
منذ حسم مسألة اقتراع المغتربين في جميع الدوائر على حساب اقتراعهم لـ6 نواب مخصّصين للخارج، استشعر جبران باسيل بأن مطالبته باقتراع المغتربين منذ انتخابات 2018 تحوّلت من فرصة لاكتساب شعبية إضافية إلى عامل سيُساهم في تراجع نتائجه الانتخابية، وهكذا انقلب السحر على الساحر. وهذا ما دفع أحد الصحافيين المُتابعين أن يقول في مجالسه الخاصة: لو كنت مكان السلطة لما سمحت باستكمال الانتخابات.
لكن رغم أهمية الانتخابات ودور المغتربين في تحديد نتائجها، قد تكون النتيجة الأهم هي التحوّل البنيوي في السياسة اللبنانية التي أشارت إليها هذه الانتخابات. فهذه المرة الأولى التي تلعب الجالية اللبنانية دورًا سياسيًا مباشرًا، وهو دور من المتوقع أنّ يتفاقم مع الوقت. فالانتخابات قد تشكّل حافزًا لتنظيم الاغتراب اللبناني سياسيًا، ما سيعطي دفعًا لتشكيل معارضة أوسع للنظام.