رؤية كويريّة محلية
في تلك الليلة التي أذكرها لأنك رويتها لي، أو رويتها لك، لا أعرف. ولا أعرف لماذا لا نتوقف عن رواية حكايتنا التي نعرفها.
جملةٌ يردّدها الشاب الراوي في «بشتقلك ساعات»، وهو الفيلم العربي الوحيد، من إنتاج مصري لبناني ألماني مشترك، الذي يعرض في الدورة الحالية لمهرجان برلين السينمائي. في أوّل فيلم روائي طويل له، يخيط المخرج المصري محمد شوقي حسن قصص حب بين رجال من خلال حبلٍ سردي تتعدّد فيه الأصوات والحكايات مع تعدّد العشاق.
بعيداً عن الكليشيهات الدرامية التي تعالج المثلية الجنسية كـ«قضية» أو تتناول التجارب المثلية من باب معاناة الأفراد الشخصية، يقدّم لنا «بشتقلك ساعات» الشخصيات في قالبٍ موسيقي وبصري جديد، غير متكلّف وجذاب، ليحيك قصص الشخصيات الغرامية على لحن أغاني البوب المصرية واللبنانية وكلماتها.
تتخلّل الفيلم مشاهد استعراضية، مستوحاة من أفلام وفيديو كليبات وفوازير عربية، تتقاطع مع حكايات يرويها الرجال بالعامية المصرية واللبنانية والإنكليزية. في مزيج بصري وسمعي من الفانتازيا والواقع، من الفصحى والعامية، من حكايات ألف ليلة وليلة وأغاني نانسي عجرم، يصوّر لنا حسن عالمًا شاذاً عن المفاهيم السائدة للحب والجنس والرغبة، عالماً يرسم معالمه كولاج من الموسيقى والسينما والتلفزيون العربي، يستعمله حسن لإخراج رؤية كويرية محلية.
غالباً ما يترافق هذا السرد للأحداِث مع مشاهد حميمة وإيروتيكية بين الرجال، في غرف معتمة وأخرى مضيئة، في كاراج سيارات وغرف نوم وملاهٍ ليلية واستوديو تصوير.
قصة الفيلم، إذن، عربية، ولكنها لا تنتمي إلى مكان أو زمان محدّد، كما أنه لا يمكن روايتها بلغةٍ واحدة أو بصوتٍ واحد. هي قصة عابرة للأجساد والذكريات، وكأنها رسالة حب من عاشق ولهان إلى من أَحبَّهم، أينما كانوا. ولكنّها أيضاً محاولة لتوثيق مشاعر وأحاسيس ورغبات ممنوعة من الظهور، محذوفة من مخيلتنا الثقافية الجماعية.
تعدّدية السرد كسياسة
كيف نروي قصصنا الممنوعة؟ ولماذا؟ ولماذا كلّ هذا التأمل في علاقاتنا الشخصية؟ هي أسئلة يطرحها الفيلم، ليحاكي جيلاً من الشباب العربي، في الوطن والشتات، انتفض على منظومة القيم الأخلاقية والدينية والإجتماعية المحافظة ليعيش بانسجام أكبر مع ذاته وأفكاره ورغباته. هو جيل ينسج في الفن والصحافة والأدب والسينما سرديات تظهّر الترابط بين ثوراتنا الفردية والجماعية، الخاصة والعامة.
لا يقارب حسن موضوعه من منطلق سياسي بالمعنى الضيّق للكلمة. فالفيلم لا يناصر قضية، ولا يحاول أن يُظهر الشخصية المثلية كضحية اضطهاد وقمع. تكمن رؤية الفيلم السياسية في بنيته السردية، مستعيناً بشهرزاد (تؤديها الفنانة المصرية دنيا مسعود) وبكورسٍ من الرجال، يبتكر حسن بُنيةً روائية لا تعتمد على أحادية الراوي.
فمع مرور الوقت، تتشعّب القصص لتُظهر تضارباً في السرديات وترابُطاً بين الحبكات وتشابُهاً في أحداثها وتسلسلها. تخلق هذه البنية حالة من الضياع عند المشاهدين، فلا نعود نعرف عن أي عاشقٍ نحكي. تتشابك خطوط السرد: لا نفهم من يتكلّم، ومع مَن، وعن أي قصة أو قبلةٍ أو لقاء يتحدثان. فكما تقول إحدى الشخصيات التي يلعبها سليم مراد في أداءٍ مميز: عم لاقي صعوبة أعرف وين كل قصة بتبلش، وين بتنتهي. ما بعرف، أصلاً هني بينتهوا؟ وبتبلش قصة تانية بعدين وما منرجع للأولانية؟
هو إذن ضياع يفتعله الفيلم من خلال تعدّدية الأصوات ووجهات النظر. هو ضياع يعبّر عنه الراوي نفسه فلا يفرّق بين ذاكرته وذاكرة الحبيب. لا أحادية في الذاكرة هنا، ولا في الحب، ولا في تأريخنا للمجتمعات البديلة التي خلقناها كي نعيش، بل تعددية دائمة تعكسها تعددية القوالب الجمالية التي يستخدمها الفيلم، والتي ينجح من خلالها حسن في صياغة نص سينمائي أصيل في إيحاءاته ومرجعياته الثقافية، ومُبدعٌ في لغته التي تمزج بين الأنواع والأنماط البصرية، وبين الشعر والكلام والغناء. ولا يخلو كل ذلك من الشهوة واللذة، من نظرة إيروتيكية للذكورة وتحديداً لجسد الرجل المثليّ، تغوي المشاهدين على تعدُّد ميولهم وأهوائهم الجنسية.
التطبيع مع اللذّة
ولعلّ اللذة البصرية التي ينقلها إلينا حسن بعدسته هي أخطر ما في الفيلم الذي لاقى بعد عرضه الأول في مهرجان برلين السينمائي موجة اعتراض حادة ومتوقّعة من قبل جمهور مصري لم يحضره.
الموضوع كفيل بأن يضع الفيلم في خانة الأعمال المشبوهة التي «تدعو للرذيلة» و«تخدش الحياء». فيدينه صنّاع الرأي العام ويُحاكَم صانعه حتى قبل عرضه. فكما يؤكّد طارق الشناوي، أحد النقّاد الفنيين المصريين، وهو أيضاً لم يشاهد الفيلم، في مقابلة تلفزيونية له على قناة «القاهرة والناس»: هذا الفيلم ليس مصرياً وأحداثه لا تمت لمصر بصلة، حتى وإن كان المخرج حامل الجنسية المصرية. ومع تصاعد وتيرة الانتقادات، قدّم أحد المحامين إنذاراً رسمياً لرئاسة مجلس الوزراء المصري لإسقاط الجنسية المصرية عن حسن، وهو مقيم في ألمانيا، متهماً الفيلم بأنه هجمة شرسة على قيم وأخلاق المجتمع المصري بهدف هدم القيم المجتمعية.
أما مقدّم برنامج «حديث القاهرة» الإعلامي خيري رمضان، فيشدّد على اعتراضه على هذا النوع من السينما على قاعدة أن الشخصية المصرية مضطربة في السنوات الأخيرة، ومش صح إني أضيف لها عنصر مفاجئ متصادم مع الدين والأخلاق والطبيعة الإنسانية. يفرض خطاب الإعلام المصري السائد أدبيات المحاكمة الأخلاقية في كل حديث عن عمل فني يتناول المثلية. فكما كان الحال مع فيلم «أصحاب ولا أعز»، تهرع المنظومة الإعلامية إلى إدانة الأجندات الأجنبية الخفية التي تحاول أن تفرض علينا الشذوذ «كحالة طبيعية موجودة في المجتمع». وهنا، بحسب المذيع الحريص على قيمنا، يكمن الخطر: في التطبيع مع المثلية.
رسالة حب دائم
لا يحاول «بشتقلك ساعات» أن يطبّع العلاقات الغرامية والجنسية والحميمة بين الرجال. لا يقدّمها في سياق رومانسي سهل الهضم، ليخلّص الرجل العاشق للرجال من وصمة العار والانحراف. هو لا يخجل من الجسد الشهواني والمتلذّذ، ولا يحاول إخفاءه من أجل خلق صورة تسهّل قبوله في المجتمع. لا أجندات ولا رسائل سرية للفيلم إذن، فقط شهادة جماعية، واضحة وصريحة، أن الحب بين الرجال جميل ومثير، مؤلم وممتع، شاعري وعنيف، ينتهي ويدوم. فقط رسالة من عاشق سابق أنه يحبك باستمرار.