ثمّة قراءة لموقف «حزب الله» من المفاوضات مع صندوق النقد تقول بأنّ الأخير لم يكن يريد الدخول بمفاوضات مع الصندوق لأسباب «أيديولوجية». هذه القراءة موجودة بقوّة لدى قوى سياسية من المنتفضين مثل «حركة مواطنون ومواطنات في دولة» التي ترى أنّ صندوق النقد بشروطه إنّما يهدّد «حزب الله». ذلك أنّ الصندوق، بما للولايات المتّحدة من تحكّم بقراراته، هو أداة أميركية مباشرة.
لكنّ تسلسل الأحداث لا يخدم بالضرورة هذه القراءة. فلم تكن قد مضت أيّام على وصف نعيم قاسم صندوق النقد بـ«الأداة الاستكبارية» حتى عاد حسن نصرالله واعطى الموافقة على بدء المفاوضات مع الأخير «ما دامت بلا شروط» تهدّد السيادة اللبنانية. حدث هذا تحديداً بعد يومٍ من طلب إيران قرضاً من البنك الدولي بقيمة 5 مليار دولار، وذلك للمرّة الأولى منذ عام 1962. والجدير بالذكر أنّه رغم التوافق الإيراني- الأميركي على الإتيان برئيس المخابرات العراقية منذ عام 2016، مصطفى الكاظمي، رئيسًا للوزراء، فإنّ إدارة ترامب لم توافق على إعطاء إيران قرضاً من صندوق النقد أو أن تخفّف العقوبات.
تقلب قراءة شربل نحّاس الواقع رأساً على عَقِب. صحيح أنّه عندما توقّفت الحكومة عن دفع اليوروبوندز باتت الحاجة إلى الدولارات هائلة وصارت بالتالي حاجتها لصندوق النقد مبرمة. لكن إذا كانت حكومة الواجهة التي يرأسها البروفسور والمُدارة من قبل حسن نصر الله وبري وعون تعرف أن توقّفها عن دفع اليوروبوندز، من دون وجود خطة، سيرمي بها في أحضان صندوق النقد «الاستكباري»، لماذا قامت بأخذ قرارها هذا؟ يعتبر هذا الرأي أنّ قرار الحكومة هذا كان خطأ تمّ «الإيقاع به» لتصبح فريسة شروط صندوق النقد.
يبدو أنّ هذه القراءة ليست إلا قراءة أيديولوجية تعتبر أنّ ثمّة عوائق «مبدئية» ضدّ تعامل «حزب الله» مع صندوق النقد، حتّى لو كان ذلك يخدم مصالحه أو المصالح الإيرانية. أمّا الواقع، فلا يخضع لهذه القراءة الأيديولوجيّة، ولمَ لا يكون «حزب الله» هو من دفع حكومة البروفسور للتوقّف عن الدفع، ثمّ الذهاب إلى صندوق النقد، من أجل أن يُحَوِّل المجتمع اللبناني بأسره، أيّ جميعنا، بأرزاقنا، بأولادنا واقربائنا وأموالنا المتبخّرة كمودعين، بطعامنا ومستقبلنا، إلى ورقة ضغط إضافية بيد ايران من خلال مفاوضات الأخيرة مع صندوق النقد. لقد «أقحِم الخارج في الداخل» بقرار من «حزب الله»، وليس العكس.
تجويع اللبنانيّين، وهو العنوان الذي يكثر نصر الله من استخدامه في خطاباته الأخيرة، إنّما هو تحديداً السلاح الذي اختار الأخير استعماله من وراء البروفسور في المعركة التي يخوضها حتى موعد الانتخابات الأميركية. لهذا كلّه أيضاً يتمّ استهداف منتفضي 17 تشرين في المناطق التي تسيطر فيها أحزاب «الثنائي الشيعي» كما حصل مع بشير أبو زيد، رئيس تحرير جريدة 17 تشرين. لهذا أيضاً كرّر السيّد بأن إسرائيل راهنت على 17 تشرين.
فالانتفاضة هنا، كما في العراق، هي تهديد أكثر من جدّي للقبضة الإيرانية. ونصر الله، المنسجم مع رؤيته للمعركة، لا يرى فرقاً بين إيران ولبنان والعراق. أما صندوق النقد بشروطه حول مكافحة التهريب مثلاً، والتي سيرفضها «حزب الله» من وراء المنابر والتي ستحكم على المفاوضات بالفشل الأكيد، فلن يكون هو ما سيهدّد حقاً سلطة حزب الله في لبنان. لكن ما سيهدّد اللبنانيين هو إضاعة الوقت الثمين في أثناء كل ذلك. فالتهديد الحقيقي، كما يقول نحّاس محقًّا، يكمن في بقاء حكومة الواجهة.