تأجيل بحجّة الظروف التنظيمية
في قاعة صغيرة تابعة لوزارة الثقافة، ينتظر عرضنا المسرحي منذ أشهر الضوء الأخضر ليُقدَّم أمام الجمهور. الورق جاهز، الممثّلون متحمّسون، لكن «الإدارة» تطلب تأجيلًا جديدًا بحجّة الظروف التنظيمية. هذه العبارة، التي سمعناها طيلة عقود، عادت لتُقال بالأسلوب نفسه بعد سقوط النظام، وكأنّ الزمن لم يتحرّك قيد أنملة.
حين أتحدّث مع زملائي من المسرحيين والسينمائيين المستقلّين، أكتشف أنّني لست وحدي في هذا الانتظار. الفنّانون اليوم يعيشون في منطقةٍ رماديةٍ: النظام سقط، لكن السلطات الجديدة لم تترك لهم سوى هامشٍ ضيّقٍ للتنفّس. المشهد الثقافي في سوريا يشبه مدينةً فقدت ذاكرتها، لا صوتَ واضحًا، لا فضاءَ عامًا يجمع الناس، فقط محاولات فردية للبقاء، تشبه كتابة التاريخ في الظلّ.
محاولات تنتظر انتهاء تأجيل الظروف التنظيمية.
سينما الكندي
أكثر اللحظات التي كشفت هذا التحوّل كانت حادثة سينما الكندي في دمشق. القرار الإداري الذي نقل تبعيّة الصالة إلى وزارة الأوقاف. لم يكن مجرّد تبديلٍ إداري، كان إعلانًا رمزيًا عن مرحلةٍ جديدةٍ يُختزَل فيها الفضاء الثقافي داخل تعريف ديني ضيّق. يقول المخرج السينمائي عمرو علي إنّ الكندي لم تكن مجرّد صالة عرض، بل ذاكرة مدينة كاملة، مكان خرجت منه أجيال من السينمائيين الذين اندفعوا لاحقًا للدفاع عن الصالة عندما دُقّ ناقوس الخطر. حين تحوّلت الصالة إلى «مركز ثقافي ديني»، كان الأمر أشبه بإغلاق باب الذاكرة في وجه الحاضر. عمرو لم يستسلم، فصنع فيلمًا وثائقيًا سريعًا يوثّق الاعتصام الذي نظّمه الفنّانون ضدّ القرار. يقول إنّ الفيلم لم يكن مجرّد توثيق، بل ضرورة مُلحّة للتعبير عن رؤيتهم وتسجيل شهادتهم أمام الزمن والتاريخ، والمُساهمة في إبراز قضيّتهم.
في المقابل، يرى السينمائي أنس زواهري أنّ ما يجري اليوم ليس مجرّد رقابةٍ جديدةٍ، بل استمرار لجوهر السلطة القديمة بوجهٍ مختلف. يقول: فقدان الكندي هو سحب رمزي لمساحة التعبير الحر، وفرض شكل جديد من السيطرة. السينما المستقلّة بالنسبة له هي الأداة الوحيدة القادرة على صون استقلالية الفن أمام سلطة الأمر الواقع، لأنها تمنح الفنّان القدرة على إنتاج رؤيته بحريّة، حتّى لو وُوجِهت تلك الحرية بمحاولات تقييد جديدة. فالصراع لا ينتهي بمجرّد الاستقلال عن المؤسّسات، بل يبدأ من هناك، في الدفاع عن هذا الاستقلال ذاته.
بين الانتظار الرسمي والمساحات البديلة
هذا الإصرار على الصمود يتكرّر بصيَغ مختلفة في المسرح أيضًا. الممثّل وئام إسماعيل، الذي يشاركني الانتظار ذاته في وزارة الثقافة، يرى أنّ التأجيلات والروتين لا يختلفان كثيرًا عن الرقابة القديمة: هذا التأخير جعلنا نعيد النظر في مشاعرنا المتفائلة، واستعاد فينا إحباطًا كنّا قد عشناه في ظلّ النظام السابق، بسبب الروتين المقيت والرقابة الأمنية الخانقة. وهذا بالضرورة سينعكس على الرغبة والشغف بالاستمرار. لكن هناك من قرّر ألّا ينتظر. الأخوان أحمد ومحمد ملص، مثلًا، حوّلا منزلهما وفضاءات صغيرة إلى مسارح بديلة. يقول محمد: إذا ما قدر المسرحيين يعملوا مسرح مستقل هلق، رح يرجع السقف ينخفض. الحرب الحقيقية اليوم هي حرب المسرحيين، قبل أن يوضح: الدولة ما رح تجيب الديمقراطية على طبق من دهب. الديمقراطية تُنتزع، والمسرح كمان.
هذا التحوّل من الفضاء الرسمي إلى المبادرات الفردية بات سمة المرحلة. ساشا أيوب، المديرة التنفيذية لـ«ستوريز فيلم»، ترى أنّ الكيانات المستقلّة اليوم تواجه معركةً طويلةً، فتقول إنّ تحويل سينما الكندي رسالة واضحة، تهميش الثقافة وربطها بالدين. لكن في المقابل، الوقت اليوم لصالحنا إن عرفنا كيف نتحرّك بسرعة. وتعتبر أنّ استعادة الجمهور هي المعركة الأساسية الآن، إمّا أن تأخذ المبادرات المستقلّة مساحاتها وقاعدتها الشعبية، وإمّا ستخسرها إلى لأبد أمام الاصطفافات الجديدة.
الثقافة والنظام الجديد
كلّ هذه الأصوات، رغم اختلافها، تلتقي عند فكرةٍ واحدة: أنّ سقوط النظام لم يحرّر الثقافة، بل كشف هشاشتها. لم يعد القمع أمنيًا فقط، بل إداريًا، بيروقراطيًا، وحتّى دينيًا أحيانًا. لكن وسط هذا الظلام، يلمع ضوءٌ صغيرٌ، روح الفنّانين الذين يصرّون على الاستمرار، حتّى لو اقتصر الأمر على بيوت، أقبية، أو مقاهٍ تتحوّل لمسارح مؤقّتة. هذه المبادرات ليست مجرّد محاولات لإحياء الفن، بل للحفاظ على التراث السوري أيضًا، على ذاكرة المجتمع وهويّته الثقافية العميقة وتحويلها إلى تجربةٍ حيّة يُشارك فيها الجمهور، بدل أن تبقى محفوظةً في أرشيفٍ جامدٍ.
إنّ إعادة إحياء المسرح والمساحات الثقافية، بما فيها صالات السينما، ليست مجرّد استعادةٍ للعروض الفنية، بل ضرورة لحماية الذاكرة الجماعية والهوية الثقافية من التآكل. هذه الأماكن ليست مواقع للعرض فقط، بل فضاءات للحوار والاختلاف وإعادة بناء الوعي الجماعي. الثقافة لا تُبنى من الأعلى أو عبر المبادرات الفردية وحدها، بل تحتاج إلى تعاونٍ مستمرٍّ بين التجارب المستقلّة، والمبادرات الفردية، ومشاركة المجتمع، ودور الدولة في توفير الأطر والسياسات الداعمة لضمان استدامة الإبداع وحماية التراث.
في السياق السوري، نحن كمسرحيين وسينمائيين شباب نحاول أن نُسمع أصواتنا ضمن هذا النسيج الثقافي المتنوّع. نؤمن أنّ مواجهة القيود القديمة أو الجديدة لا تكون بالشعارات، بل بالعمل اليومي، وبخلق تجارب فنيّة جديدة تُصرّ على الوجود رغم كل الانسدادات. الإنتاج المستقلّ اليوم ليس مجرّد ممارسة فنية، بل فعل تحدٍّ، ومعركة يومية للحفاظ على معنى الثقافة نفسها، مع إمكانية أن تصبح هذه المبادرات نواةً لنهضة ثقافية جديدة تستعيد الفن كفعل صمودٍ ومجال للحياة.