تحليل دونالد ترامب
طارق أبي سمرا

ترامب: سطحٌ بلا عمق

30 نيسان 2025

في مقابلة أجراها معه الصحافي مايكل دانتونيو عام 2014، يقول دونالد ترامب: لا أحبّ أن أُحلِّل نفسي، فقد لا يعجبني ما سأراه. 

قلّة قليلة من البشر يستطيعون التفوّه بجملة كهذه. وليس ذلك لأنّ معظم الناس مولَعون بتحليل ذواتهم، بل لأنّهم لا يجرؤون على الإقرار بأمرَين: جهلهم بأنفسهم، ونفورهم من التحديق في أعماقهم. فمعرفة الذات – أو أقلّه السعي إلى معرفتها – لطالما اعتُبِرت فضيلةً عظيمة يُثنى عليها.

لذلك فإنّ ترامب، بإقراره بأنّه يجهل نفسه وينفر من الغوص فيها، يُشكِّل حالة نادرة واستثنائية. كأنّه يقول إنّ ما في داخل النفس البشريّة لا أهميّة له على الإطلاق، وإنّ محاولة اكتشافه مضيعةٌ للوقت، وإنّه لا قيمة لشيء سوى ما يُنجَز في عالم الواقع.

لكن ما الذي قد يعثر عليه ترامب في أعماقه لو حاول أن يُحلّل نفسه؟ ولماذا قد لا يعجبه ما سيراه حينئذٍ؟


لطالما وُصِف ترامب بأنّه شخصٌ متقلِّب، يَصعب التنبّؤ بسلوكه وأقواله. هو لا يُنكر ذلك بتاتاً، بل يعتبر أنّ هذه الصفةَ ميزةٌ سياسية. على سبيل المثال، يقول في خطاب يعود إلى العام 2016: علينا، كأمّة، أن نكون أكثر غموضاً وأقلّ قابليّة للتوقّع. سلوكنا الآن مُتوقَّع بالكامل. نُفصِح عن كلّ شيء. نُرسل قوات فنُعلن عن ذلك. نُرسل شيئاً آخر فنعقد مؤتمراً صحفياً. يجب أن نكون غير متوقَّعين، ويجب أن نبدأ بذلك فوراً.

يرى ترامب، إذاً، أنّ الأمّة الأميركية برمّتها يجب أن تكون على صورته، أي مزاجيّة ومُتقلِّبة لا يمكن التكهّن بسلوكها. فتصرّفات ترامب التي لا يمكن التنبّؤ بها ليست تكتيكاً مدروساً يهدف إلى إخفاء نواياه الحقيقية، بل مجرّد مزاجيّة خالصة: انغماس كلّي في اللحظة واستسلام كامل للنزوات الآنيّة. لذلك يفعل ترامب الشيء وعكسه، ويقول الشيء وعكسه، ويبدو، في كثير من الأحيان، غير مدرك لهذا التناقض. ولذلك أيضاً يُحقِّر خصومه ويشتمهم، كما لو أنّه لا يستطيع كبح أيّ فكرة أو نزوة تمرّ في رأسه. ولذلك أيضاً تبدو الكثير من أفعاله السياسية نابعةً من رغبات شخصيّة محضة، مثل إصداره أمراً تنفيذياً يُلغي المعايير التي تحدّ من ضغط المياه في «دوش» الاستحمام.

يبدو ترامب كائناً تحكمه غرائزه على نحو شبه مُطلق، وهو في ذلك يشبه الأطفال والحيوانات. كأنّه إنسان من عصور غابرة، سابقة للتحضّر. يفعل ما يشتهيه في اللحظة، بلا أي تخطيط للمستقبل أو حساب للعواقب، كأنّه لا يعيش في الزمن. وهو فعلاً يتّسم بالصراحة كما يُثني عليه البعض، ولكنّها صراحة الأطفال أو الحيوانات، صراحة غرائزية، إذا جاز التعبير، تنبع من العيش في اللحظة، ومن غياب الوعي بعواقب الأفعال والأقوال.


ما الذي قد يعثر عليه ترامب في أعماقه، إذاً، لو حاول أن يُحلّل نفسه؟ على الأرجح، لا شيء. فالكائن الذي تسيطر عليه غرائزه بالكامل لا يملك حياة داخليّة تُذكَر. ذاك أنّ الحوافز والرغبات والنزوات التي تنبع من داخله تتحوّل فوراً إلى أفعال في العالم الخارجي، من دون أن تمرّ بأيّ فلترة أو تَفَكُّر. لذلك يمكن القول إن ترامب مجرّد سطح لا عمق له ولا داخل. كائن شفّاف، لا شيء فيه مخفيّ، ويمكن اختزاله بالكامل في أفعاله وأقواله، فلا ضرورة، تالياً، لافتراض حياة داخلية تُفسَّر بها تلك الأفعال والأقوال.


هل في هذا التوصيف شيء من المبالغة؟ بلا شك، أجل. فهو ينطبق على صورة ترامب كما تتجلّى في الإعلام أكثر ممّا ينطبق على الفرد الحقيقي. إنّها صورة شخص حرّ إلى أقصى الحدود، لا ضوابط له ولا كوابح، رغباته وغرائزه في حالة إشباع دائمة. صورة كائن غارق في متعة خالصة لا تُفارقه في أيّ لحظة من حياته، متعة حيوانيّة لا تُكدِّرها أيّة حياة داخلية.

لعلّ هذه الصورة هي سرّ شعبيّة ترامب: صورة تتيح لمناصريه، متى تماهوا معها، أن يختبروا في خيالهم نشوة إشباع رغباتهم وغرائزهم من دون أيّ قيود. لكنّ الصورة هذه تسحر أيضاً خصومه وأعداءه، فمَن مِنّا لم يراوده حلم أن يكون كليّ القدرة، متفلّتاً من ضوابط المجتمع، مُتحرّراً من حياته الداخلية، غارقاً في نشوة لا تنقطع؟ 

ترامب شعبويّ بامتياز، بل بالفطرة. فهو لا يتعمّد استثارة غرائز جمهوره والتلاعب بها، وإنّما يفعل ذلك عفويّاً وتلقائيّاً: إنّه كائن غريزيّ صرف، لا يملك سوى مخاطبة الغرائز ولا يجيد أيّة لغة أخرى.              

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
إعلان «خلّة الضبع» في مسافر يطا منطقة عسكرية
ميونيخ: مشجّعو باريس سان-جيرمان يهتفون لفلسطين 
مجزرة إسرائيلية أمام المركز الأميركي لتوزيع المساعدات
محتجّون في طرابلس يلغون عرضاً كوميدياً
5 قيل هذا الأسبوع: 25 أيار - 31 أيار 2025
خيمة الحقيقة في الغوطة الشرقيّة: العدالة للمغيّبين