قضية الأسبوع آخر أيّام الحاكم
ميغافون ㅤ

كيف نتخطّى تركة رياض سلامة الثقيلة؟

22 تموز 2023

الحاكم المُضارب في اقتصاد الربح السريع

في حقبة إعادة الإعمار، بعد انتهاء الحرب الأهليّة، كانت البيئة خصبة لشتّى أنواع الإثراء السهل والسريع، بمجرّد انتماء الشخص للنخبة الماليّة والسياسيّة المحظيّة. في تلك المرحلة، كان بإمكان المرء أن يضاعف ثروته في بعض المضاربات العقاريّة السريعة، المعفيّة من القيود التنظيميّة أو الضرائب. أو كان بإمكانه فعل ذلك بمجرّد تنفيذ بعض المشاريع والمقاولات لحساب الدولة، وهو ما لم يتطلّب سوى الانتماء لحلقة المتعهّدين النافذين الذين توزّعت عليهم مغانم الماليّة العامّة. وإن لم يرغب المستثمر ببذل الكثير من العناء، كان بإمكانه الاكتفاء بتوظيف أمواله في سندات الخزينة اللبنانيّة.

في بيئة ماجنة من هذا النوع، أتت الحريريّة السياسيّة برياض سلامة عام 1993، ليكمّل في عالم النقد والمصارف ما باشرت به في عالم السياسات الاقتصاديّة والماليّة الحكوميّة. ومن هذه الزاوية بالتحديد، يمكن فهم استقدام رياض سلامة من عوالم البورصة والمضاربات السريعة التي عمل فيها من موقعه في مصرف «ميريل لينش»، بدل استقدام شخصيّة ذات خلفيّة إداريّة أو قانونيّة رصينة.

اقتصاد الربح السريع كان يحتاج إلى تدفّق الدولارات من الخارج، لتمويل الطفرة العقاريّة والمديونيّة العامّة والعجز في حساب الخزينة. وفي الوقت نفسه، كان يحتاج إلى تثبيت سعر الصرف، لضمان قيمة الأرباح المتدفّقة إلى النظام المصرفي، من الاستثمار في سندات الدين العام بالليرة. 

لم يكن من الممكن تخيّل سياسة نقديّة قادرة على أداء هذه الأدوار، غير تلك القائمة على المُضاربة في رفع الفوائد المصرفيّة لاستقطاب التحويلات، واستعمال هذه التدفقات لتثبيت سعر الصرف. اليوم، بتنا نعرف كلفة هذه السياسة على استقرار النظام المصرفي، وأداء القطاعات الاقتصاديّة المُنتجة. لكنّنا بتنا نعرف أيضًا أنّ هذه الكلفة كانت ضروريّة لخدمة مصالح النخبة المحظيّة، وبتنا نعرف أنّ سلامة كان يؤدّي دوره بإتقان، على ضفاف السياسات الماليّة التي قامت بعد نهاية الحرب.


المُغامر المستهتر وكذبة الحاكم المحافظ

بخلاف كل الدعاية الإعلاميّة التي سوّقتها الحلقة الإعلاميّة المحيطة به، لم يكن سلامة حاكمًا محافظًا لمصرف لبنان، ولم تتّسم سياساته بالابتعاد عن المجازفات المُكلفة. 
في واقع الأمر، وبعد سنوات قليلة من قدومه إلى حاكميّة المصرف المركزي، ألغى سلامة من قاموس المصرف بند «صافي الاحتياطات» الذي يكشف الفارق بين التزامات وموجودات المصرف من العملات الأجنبيّة. وكانت تلك الحيلة أبرز المؤشّرات التي أكّدت أنّ المصرف كان يراكم الخسائر، أي العجز في هذا البند، منذ التسعينات، وقبل أن تشهد البلاد أي ضغوط ماليّة أو اقتصاديّة في الحقبات التالية. وعلى أي حال، لم يكن من المتوقّع أن ينتج عن سياسة رفع الفوائد سوى رفع التزامات المصرف بالعملات الأجنبيّة، من دون أن يملك المصرف القدرة على خلق هذه العملات بالفعل. 
بهذا المعنى، كان سلامة يجازف بأموال المودعين، وباستدامة السياسة النقديّة، منذ أولى سنوات عمله في مصرف لبنان. ثم جهد على مرّ السنوات اللاحقة لإخفاء باقي بصمات جريمته: من الامتناع عن كشف حجم توظيفات المصارف لديه بالعملات الأجنبيّة، إلى إخفاء صفحات من تقارير المؤسسات الدوليّة، وصولًا إلى التوقّف عن نشر تقارير التدقيق الدوريّة في ميزانيّة المصرف.
تمكّنت السياسات الحكوميّة من إعطاء سلامة بعض الوقت بين العامين 2001 و2006، جرّاء مؤتمرات الدعم في باريس، التي أمّنت إعادة تمويل بعض الديون العامّة وضخ العملة الصعبة في النظام المالي. كما شاءت الأقدار أن يستفيد لبنان من تداعيات الأزمة الماليّة العالميّة بين عامي 2008 و2011، وما نتج عنها من تدفّق للرساميل الخائفة من مصير المصارف الغربيّة. 

إلا أنّ المجازفات التي امتهنها سلامة سرعان ما عادت لتكبّد النظام المالي المزيد من الخسائر ابتداءً من العام 2011. ومنذ ذلك الوقت، استمرّ سلامة بتطبيق ما يحلو له من حيل محاسبيّة لإخفاء تلك الخسائر، قبل أن تنفجر الأزمة على مصراعيها في العام 2019، حين انكشفت فجأة وفي سنة واحدة تراكمات عقود من الزمن. وفي واقع الأمر، قلّما شهد التاريخ حاكماً لمصرف مركزي بهذا القدر من الاستهتار في تحمّل المجازفات والمغامرات التي وصلت إلى حد تحميل النظام المصرفي فجوة تقارب قيمتها الـ3.65 مرّة حجم الاقتصاد المحلّي.

وليتمكّن من الذهاب بعيداً في كل هذه المغامرات، استفاد من كل الفجوات الموجودة في القوانين النافذة، والتي ركّزت في منصب الحاكم صلاحيّات واسعة ومتضاربة: من تنظيم القطاع المصرفي إلى مكافحة تبييض الأموال وترؤّس هيئة التحقيق الخاصّة، وصولًا إلى السيطرة على عمل لجنة الرقابة على المصارف، وترؤّس المجلس المركزي المخوّل بوضع السياسة النقديّة. كما ترأس الهيئة المصرفيّة العليا التي تمسك بصلاحيّة محاسبة المصارف المخالفة، وهيئة الأسواق الماليّة المخوّلة تنظيم عمل البورصة والشركات الماليّة. وبهذا الشكل، بات سلامة ينظّم ويراقب ويدقّق ويحاسب ويحارب تبييض الأموال ويضع السياسة النقديّة، في الوقت نفسه. 


ما بعد سلامة

لن يكون من السهل تصوّر مرحلة ما بعد سلامة، إن غادر الرجل منصبه في نهاية شهر تمّوز، ولم تنجح محاولات التمديد له. ففي مرحلة ما بعد سلامة، ثمّة حاجة للتعامل مع عدد لا يُحصى من الإشكاليّات التي خلفّتها الحقبة السابقة، سواء بما يخص السياسة النقديّة، أو في ما يتعلّق بإدارة القطاع المصرفي وتنظيم مصرف لبنان.

الإشكاليّة الأولى أمام الحاكم المقبل ستكون إعادة الانتظام إلى السياسة النقديّة، وهو ما يفترض أن يبدأ بمعالجة وضعيّة منصّة صيرفة، التي كان من المفترض أن تكون أداة التداول الحر بالعملات الأجنبيّة، لتعويم وتوحيد سعر صرف الليرة اللبنانيّة. مشاكل المنصّة تبدأ بعدم الشفافيّة بخصوص الفئات القادرة على شراء دولاراتها، وبالغموض الذي يخيّم على عمليّات امتصاص الدولار لحساب المنصّة من السوق، وصولاً إلى عدم وجود آليّة شفّافة لتحديد سعر صرفها بشكل يومي، واستمرار التباين بين سعرها وسعر السوق الموازية. ببساطة، لم تتحوّل المنصّة إلى أداة تداول حرّة وشفّافة للعملات الأجنبيّة، كما لم توحّد أسعار الصرف المتعددة، بل تحوّلت إلى أداة ملتبسة تُنتج سعر صرف مدعوم إضافي، تستفيد منه بعض الفئات في المجتمع.
ومعالجة أزمة المنصّة، باتت أصعب اليوم مما يتصوّره البعض. فوقف عملها سيعني العبث بتوازنات العرض والطلب في السوق، ما سيخلق فوضى نقديّة غير محبّذة الآن. أمّا تصحيح آليّة عملها، فسيحتاج إلى خطّة واضحة وطويلة الأمد، لتعويم سعر صرف الليرة بشكل متدرّج، ومن دون التسبب بانهيارات سريعة في قيمتها.

الإشكاليّة الأخرى التي يفترض أن يتعامل معها أي حاكم جديد للمصرف، هي كيفيّة التعامل مع التشوّه الذي أًصاب ميزانيّة المصرف المركزي منذ شهر شباط الماضي. فمنذ ذلك الوقت، عمد سلامة إلى إدخال تعديلات كبيرة في الميزانيّة، بعد اعتماد سعر الصرف الرسمي الجديد، وهو ما أضاف حتّى اللحظة ديوناً عامّة بقيمة 59 مليار دولار، ستتوجّب على الدولة اللبنانيّة لمصلحة المصرف المركزي. ومن الناحية العمليّة، سيكون على الحاكم الجديد الشروع في عمليّة تدقيق شاملة في أرقام المصرف الحاليّة، للبتّ بمصير هذه الديون، ووضع قيود محاسبيّة جديدة تتناسب مع المعايير العمليّة المنطقيّة. 

فوق كل ذلك، سيكون على حاكميّة مصرف لبنان- بعد انقضاء مرحلة سلامة- الشروع في عمليّة تشريح واسعة للقطاع المصرفي، عبر تدقيق ميزانيّات المصارف والوقوف عند حجم الخسائر التي طالت كل مصرف على حدة. وعلى أساس هذا التشريح الذي لم يحصل حتّى اللحظة، سيكون بإمكان المصرف التعاون مع الحكومة اللبنانيّة، لإعادة صياغة قوانين إعادة هيكلة القطاع وإعادة الانتظام إليه. 

في خلاصة الأمر، ترك سلامة وزر مرحلة مليئة بالتجاوزات والخسائر المصرفيّة، والانحرافات القاسية في السياسة النقديّة. وهذا ما سيحتاج إلى ورشة نقديّة ومصرفيّة طويلة الأمد، للتعامل مع تبعات المرحلة السابقة، وتصفية آثارها. أمّا التلكّؤ عن أداء هذه المهمّة، فسيعني التمديد للأزمة على حالها، بعيداً عن أي استقرار مالي أو نقدي منشود.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
5 تُهم ضدّ نتنياهو وغالانت 
الاتحاد الأوروبي: قرار المحكمة الجنائية مُلزِم لكلّ دول الاتحاد
مقتل باحث إسرائيلي كان يبحث عن «أرض إسرائيل» في جنوب لبنان
قتيل بصواريخ حزب الله على نهاريا