تخيّلي ابنتك تقلك ماما عبالي أشرب حليب، تطلّعي فيها وتقوليلها بكرا، وأنت بتعرفي أنه مالك قادرة تجيبي.
تقول عبير هذا، وفي صوتها خجلٌ مضاعف. خجل لأنها حكت لي عن أوضاع أسرتها، وخجل لأنها لم تستطع شراء الحليب لابنتها، وخجل لأنها تشعر بالعجز. عبير هي إحدى اللاجئين واللاجئات السوريين-ات الذين سألتهم-ن عن انعكاسات استبعادهم-ن من المساعدات الإنسانية، وعن آليات التأقلم الجديدة بعد ارتفاع الدولار وغلاء إيجارات المنازل. ففي نهاية العام الفائت، توقّفت المساعدات الإنسانية عن آلاف العائلات اللاجئة، بحسب ما قالته دلال حرب الناطقة الإعلامية باسم مفوضية شؤون اللاجئين في لبنان، رغم أنّ قرابة نصف اللاجئين السوريين يعانون من انعدام الأمن الغذائي في لبنان، بحسب ملخّص تقييم جوانب هشاشة اللاجئين السوريين في لبنان لعام 2022.
تقيم عبير في بيروت، ويعمل زوجها في سوق الأحد وصيانة الهواتف المحمولة، لكنه متنقلٌ بسبب عدم قدرته على استئجار محل خاص به، وهي لا تتلقّى أي نوع من المساعدات. طلبت عدم ذكر اسمها الصريح خشية أن يتعرف عليها أحد ويتسبب بإيذاء أطفالها نفسياً:
أنا ولا مرة تخيلت يجي يوم وأحكي فيه عن الأكل. عم فكر برمضان يلي عالطريق، صحي بقولوا رمضان شهر الخير، بس عم بتذكر لما كانت أمي بحلب تجهز الكبة والسمبوسك قبل رمضان، تحطن بالفريزر كرمال سفرة الإفطار تكون متنوعة، أنا براد ما عندي.
الخيارات الصعبة
ليست عبير وحدها من تتردّد في الحديث عن نقص الطعام. فغالباً ما تحول عزّة النفس دون ذلك، أو التحلّي بالصبر باعتبار عدم كفاية الطعام اختباراً من اختبارات الله في هذه الدنيا الآفلة. وهذا ما يزيد من شكوك البعض لدى الحديث عن نقص الطعام والغذاء، ويعزّز إيمانهم بمنطق أن ما حدا بموت من الجوع. لكن حتّى لو لم يؤدِّ نقص الغذاء إلى الموت، فهو يتطلّب جملةً من التحوّلات المؤلمة. فيضطر اللاجئون أحياناً إلى الاختيار بين الدفء ووجبة الطعام كآلية سيئة للتأقلم. وبحسب ملخص تقييم جوانب هشاشة اللاجئين السوريين، اضطرت الكثير من العائلات إلى اتباع استراتيجيات تكيّف سلبية وصارمة متعلقة بالغذاء:
- 74 بالمئة من العائلات اللاجئة في لبنان قلّصت من حجم الحصص الغذائية المستهلكة يومياً.
- 69 بالمئة اضطرت إلى تقليل عدد الوجبات الغذائية في اليوم الواحد.
- 50 بالمئة منهم يعتمدون على الاستدانة من المتاجر أو المساعدة من الأقارب أو الأصدقاء.
- 41 بالمئة من العائلات اضطر الراشدون منها إلى الحدّ من استهلاك الغذاء في سبيل إتاحته للفئات العمرية الأصغر وخاصة الأطفال.
في الواقع، أخبرتنا أكثر من سيدة عن استخدامها بدائل غير صحية لتأمين وجبات الطعام للعائلة، مثل الاستعاضة بالشحمة بدلاً عن السمن والزيت، و طبخ رقاب الدجاج وإضافتها إلى وجبة الطعام بدلاً عن الدجاجة الكاملة او اللحم. تقول أم شريف، وهي لاجئة سورية مقيمة في بلدة السفيرة في لبنان، أن وضعها الصحي السيّئ وصعوبة حركتها بسبب التهابات في الغضروف، فضلاً عن أوضاع زوجها الصحية المتردية بعد تقدمه في السن، لم تكن عائقاً أمام فصل العائلة من المساعدة الوحيدة التي كانت تتلقّاها، وهي المساعدة الغذائية. شعرت بالإحراج وهي تخبرنا عن الفطور اليومي المعتاد والمتوافر الوحيد الذي تقدمه لأطفالها قبل ذهابهم إلى المدرسة، وهو حصة من الزيتون إلى جانب إبريق شاي.
أمّا منال، وهي لاجئة سورية مقيمة في قضاء البترون في لبنان وربة منزل ولديها أربعة أطفال، فأخبرتني كيف أنّ استبعادها من المساعدة الغذائية جعلها تستبعد أيضاَ أغذية ضرورية لصحة أطفالها مثل منتجات الحليب والبيض، يضاف إلى ذلك انتفاء قدرتها على تأمين المستلزمات الأساسية مثل الأرزّ والزيت والسمن والسكر في آن معاً، وبات يتوجب عليها دائماً الاختيار بينها.
يؤدّي هذا النمط من الغذاء، سواء عبر تقليل حجم الحصص الغذائية أو حتى غياب العناصر الغذائية الأساسية، إلى انعكاسات مباشرة على الصحة الجسدية والنفسية، وخاصة على الأطفال في عمر النمو. بحسب التقرير الذي أشرنا إليه سابقاً، في 80 بالمئة من العائلات، غاب عنصر الحديد اللازم عن طعامهم.
غياب معايير الاستبعاد
تشير دلال حرب إلى أن مفوضية اللاجئين وبرنامج الأغذية العالمي يجريان كلّ عام مراجعة لنقاط الضعف لدى العائلات اللاجئة، استناداً إلى معايير تتوافق والواقع الاجتماعي والاقتصادي في البلد. وبسبب القيود المالية، يتوجب على مفوضية اللاجئين وبرنامج الأغذية العالمي أن يعطيا الأولوية للعائلات التي يتمّ تحديدها على أنها الأكثر ضعفاً اقتصادياً وبالتالي المؤهّلة أكثر من غيرها لتلقّي المساعدات النقدية والغذائية.
إلا أنّ كلّ مَن قابلتُهم يجمعون على وجود إشكالية في تقييم المفوضية لأحوالهم واستبعاد الآلاف منهم دون زيارة منازلهم والكشف على أوضاعهم، وغياب الشفافية في الطريقة التي يتم فيها استبعاد عائلات واختيار أخرى لتلقي المساعدات. فترى قمر، وهي لاجئة سورية مقيمة في مخيم البداوي في طرابلس شمالي البلاد، أنّ عملية إيقاف المساعدات أو الإبقاء على إحداها غالباً ما تتم بطريقة عشوائية دون تقييم حقيقي لأوضاع العائلات الأكثر هشاشةً. قدمت قمر من سوريا عام 2013 برفقة ابنها ووالدتها، تاركةً في حمص زوجها الذي فُقد دون أثر عام 2011. ومنذ أن تم فصلها، تتصل يومياً بالمفوضية لشرح أوضاعها المزرية ليجيبها الموظف-ة بأنها غير مخوّلة، ثمّ تبدّدت آمالها عندما وصلتها رسالة الاستبعاد النهائي. تقول قمر:
قبل أن يتم استبعادي عن تلقي المساعدة النقدية، كنتُ قادرة على شراء الدجاج أو اللحمة مرة واحدة شهرياً، كما أنني كنت أتقصّد الذهاب إلى محلات بيع الخضروات مساءً لشراء بعضها بأسعار زهيدة بعد التخفيضات.
الجوع كمدخل لـ«العودة الطوعية»؟
قبل الانهيار، لم تكن قمر تتلقّى أي مساعدة ولم تطالب بأي منها، بل كانت معتمدةً بشكل أساسي على رزقها الذي تحصل عليه مقابل عملها في تنظيف المنازل. بعد الانهيار، بدأت قمر تتلقى مساعدتين، الأولى غذائية وهي عبارة عن مبلغ 500 ألف ليرة لبنانية مخصصة لكل فرد، حيث كانت تشتري بعض الأغذية بقيمة المبلغ الذي يتم تعبئته في البطاقة الالكترونية. أما المساعدة الثانية التي كانت تتلقّاها، فهي نقدية تقارب المليون ليرة لبنانية شهرياً، أي نحو 7.8 دولار أمريكي بحسب السوق السوداء حتى تاريخ كتابة هذا التقرير. وقد تمّ استبعادها من المساعدتين. تقول قمر:
اعتمد استراتيجية تقنين معينة للالتفاف على مصاريف المنزل الكبيرة عبر التدبير المنظم وتحديد الميزانية. صحيحٌ أننا نعيش الحدّ الأدنى من الحياة برفاهيتها، إلا أنني على الأقل قادرة على تأمين أجرة المنزل، على الرغم من أنه شديد الرطوبة ومعدوم التهوئة ولا تدخله أشعة الشمس، وكثيراً ما سبّب لي ولعائلتي أمراضاً في الجهاز التنفسي.
تُعيد دلال حرب حجب المساعدات عن بعض العائلات إلى الشحّ الكبير في التمويل والموارد التي لا يمكن أن تلبّي جميع احتياجات اللاجئين، ما اضطرّ المفوضية إلى تحديد الفئات الأكثر حاجة، وبالتالي انخفض عدد الأسر المستفيدة 35 ألفاً.
إلا أنّ المستغرب هو تزامُن تقليص عدد الأسر المستفيدة مع تدهور الأوضاع الاقتصادية في لبنان، ما جعل العديد من اللاجئين السوريين يربطون قرار استبعادهم من المساعدات الإنسانية بتصاعد خطابات الكراهية والعنصرية ضدهم من قبل السلطات اللبنانية للتضييق عليهم ودفعهم نحو «العودة الطوعية» إلى سوريا، رغم التحذيرات الحقوقية بعد اعتقالات تعسفية قام بها نظام الأسد بحق لاجئين عائدين إلى سوريا. يقول أحد اللاجئين:
ربما كان عليهم أن يحذّرونا قبل إيقاف المساعدات بشكل مفاجئ، خاصةً في هذا البارد القارس وغياب وسائل التدفئة، في ظل أوضاع اقتصادية كارثية، للبحث عن مصادر رزق أخرى، عوضاً عن انتكاس أحوالنا بشكل كامل وغرقنا في البؤس.