يدور الصراع السياسي في البلد المنهار اقتصاديًا حول مسألة توزيع ثمن الأزمة، وهو توزيع ينقسم إلى شقّين: اقتصادي وسياسي. اقتصاديًا، الصراع قائم بين المصارف والطبقات المتوسطة والفقيرة، وكيفية توزيع أعباء الانهيار الراهن. أمّا سياسيًا، فيبدو الخلاف قائماً حول حزب الله وخصومه، مع امتداداتهم الإقليمية والدولية. وما مِن طريقة سهلة قد تلخّص أحد بعدَي الأزمة ببعدها الآخر: فليس حزب الله نصير الفقراء في وجه الرأسمالية المتوحّشة كما أنّه ليس المسؤول الوحيد عن الانهيار الحالي.
في ظلّ هذا الانهيار الرهيب وأبعاده المتناقضة، يحاول «الثوّار» تنظيم صفوفهم في ما يشبه لعبة «الكراسي الموسيقية» القائمة على تسابق لتأسيس جبهات وتحالفات ولقاءات جامعة تمثّل الثورة أو جزءًا منها. بيد أنّه حتى الآن، تبدو تلك التجارب محاولات للتلاقي حول نقاط جامعة وعامة، وتفتقد إلى خارطة طريق لشكل التغيير السياسي. قد يكون هذا الافتقاد إحدى علامات الانهيار، أي انسداد أفق التغيير من خلال انتخابات نيابية أو تغيير حكومي أو ضغط في الشارع.
الافتقاد إلى خارطة طريق ليس تفصيلًا، بل قد يكون إشارة إلى حدود عملية «تسييس» الثورة في ظل الانهيار، وإن لم يكن الإشارة الوحيدة. فبات لهدف التجميع العدديّ ترجمة مفهومية، وهي تحويل المسائل السياسية إلى مطالب أخلاقية خارجة عن أي سياق فعلي، وأقرب إلى امتحان دخول لنوادي التحالفات الجديدة.
فكما حصل «تفريغ» سياسي لشعار «فلسطين» أو «المقاومة»، ليتحوّلا إمّا إلى شعارات فارغة أو ابتزاز خطابي، بدأ هذا التفريغ يطال باقي المفاهيم التي سيطرت على الخطاب السياسي في السنوات الأخيرة، من الثورات العربية إلى سلاح حزب الله. وقد يكون هذا الموضوع الأخير أوضح دليل على عملية التفريغ هذه، مع تحوّله من مسألة سياسية إلى سبب إحراج من الأفضل عدم التكلّم به لتفادي إحراج بعض المعازيم إلى طاولات الحوار.
بدأ هذا المنطق يمتدّ أيضًا إلى المسألتين الاقتصادية والاجتماعية اللتين صعدتا إلى الواجهة مع الانهيار الحالي. فإذا كان من جدوى سياسية لعودة تلك المسائل إلى وسط الخلاف السياسي، فهي تكمن في قدرتها على إدخال مبدأ انقسام اجتماعي وطبقي في ظلّ مجتمع اعتاد سياسةً تنتظم حول الطوائف أو المسائل السيادية.
وبدل الانطلاق من هذا الانقسام، يحاول المنطق الجامع تطويعه أو الالتفاف من حوله من خلال خطابات إصلاحية أو تنموية، تحوّل الانقسام الاجتماعي إلى «حرب ضد الفقر» يمكن لأثرياء هذا المجتمع المساهمة بها، أو إلى تحدّي «التنمية المستدامة» التي تقدّم لخبراء هذا العالم مغزى وجودهم المهني.
بهذا المعنى، قد يكون طريق تنظيم «الثورة» يمرّ من خلال فرزها وليس جمعها ضمن أطر تحاول إعادة الطابع الوحدوي للّحظة الثورية. ما نريد العودة إليه ليس لحظة ساحات تظاهر شعب استفاق في وجه نظامه، كما تحاول تجارب التنظيم أن تفعل، بل العودة إلى لحظة الملاءمة، أي لحظة عضويّة الخطاب السياسي والحركة الاجتماعية. هذه اللحظة لن تعود من تلقاء نفسها، ولكنّها قد تحدّد اتجاه العمل السياسي، وهي معركة الهيمنة وليس السيطرة السياسية. معركة فرز، تبدأ من تخطّي الثورة من أجل بناء حركة سياسية لا تبقى سجينةً لصورة نمطية، وإن كانت جميلة.