التنميط «المقبول»
أذكر نفسي متسمّراً أمام الشاشة ليلة الإثنين لأشاهد برنامج «لا يُملّ» الساخر الذي كان يحتوي على عدّة فقرات تقوم على «تنميط» شخصيات، أحيانًا إلى حدود العنصرية. وكانت من أبرز هذه الفقرات، سكيتشات «وينيه الدولة» التي تضمنت نعيم وعباس في دور «النقّيقة». لم أفهم حينها أن لكناتهم وملابسهم، إضافةً إلى مقولة عشر ولاد عندو خيي المتلازمة مع شخصية نعيم، كانت ضمن رسم تنميطيّ للشيعة. لم أفهم ذلك، ولم يعترض أحد آنذاك على التنميط.
ثمّ أتى عباس جعفر من بعدهم، واشتهر بتمثيله لشخصية ذات حركات بلهاء وخطاب ساذج، قدّمت صورة نمطية عن أهل البقاع. بقيت السكيتشات على مستوى نكات عن الحشيشة وعن يوميات شاب بقاعي، ولم تحتوِ على أي نقد سياسي. لم يعترض أحد آنذاك على التنميط أيضًا.
بدا وكأنّ السخرية في البرامج التلفزيونية تقوم على تقنية «التنميط» التي طالت هويات مختلفة، من الطائفية والمناطقية والطبقية وحتى الجنسية والجندرية، وغالبًا مع سقطات خطيرة. لكنّ المفارقة هي أنّه، وباستثناءات بسيطة، لم توجّه أي حملة باتجاه هذه البرامج واتهامها بشيطنة أو تنميط بيئة كاملة، رغم أنه كان من الممكن اعتبارها تحمل بعض الأذى بهذا التصوير.
النقد السياسي «المرفوض»
تغيّرت الأمور عندما بدأت السخرية تطال أبعادًا سياسية.
كان سكيتش واحد في برنامج «بسمات وطن» سنة 2006 كفيلًا بإشعال فتيل التظاهرات، وأدّى إلى قطع طرقات وتهديدات وتوعّدات بالتصعيد. لم يكن «الخط الأحمر» مرتبطاً بتنميطٍ ما لطائفة أو إساءة لبيئة، بل كان سببه محاكاة نصرالله وتمثيله، كسائر السياسيين اللبنانيين. وهذا ما اعتُبِر مرفوضًا. عاد وتكرّر الأمر في سنة 2013، وعادت وخرجت تظاهرات مندّدة في مختلف المناطق اللبنانية.
تنميط الطائفة مقبول، ولكنّ المسّ بنصرالله مرفوض.
فما الذي يحرّك ردود الفعل هذه؟ لمَ لا تستدعي هذه البرامج التنميطية والعنصرية حتى مقطعاً أخبارياً واحداً، بينما يستدعي تقليد لنصرالله تهديد السلم الأهلي؟ وما هي حدود السخرية المقبولة؟
حسن قاووق في وجه تنميط المدافعين عن البيئة
كيف نفهم، بهذا السياق، الحملة على حسين قاووق اليوم، والتي وصلت إلى التهديد بالاعتداء عليه والتفريط بدمه؟
يتميّز قاووق في تهكّمه من بعض إطلالات مناصري حزب الله الإعلامية. يسلّط الضوء من خلالها على بعض الكذب والنفاق الذي يحمله كلامهم وتلاعبهم على «الخطوط الحمر». لا يهدف قاووق إلى تنميط الطائفة والإساءة إلى المناصرين لكونهم أبناء طائفة، بل بالعكس، يكسر من خلال هذه السكيتشات صورة «المجتمع الشيعي» الأحادي اللون أو المتماسك أيديولوجيًا، كما تحاول إظهاره الماكينات الإعلامية للحزب، ويظهر من خلال السخرية، تعقيدات اجتماعية وسياسية. ويحقّق كلّ ذلك ببضع دقائق، انطلاقًا من نصّ ذكي وتمثيل مبدع، كاختصار إزدواجية الحزب بجملة واحدة عن سعر الصرف، توصل نقدًا سياسيا لاذعًا من دون الإساءة إلى الطائفة، بأيّ من عاداتها أو واقعها الاجتماعي.
حسن قاووق لم ينمّط، ولكنّ هذا لم يحمِه من حملة تخوينية طالته. أراد مطلقو الحملة طمس نقد قاووق، النابع من داخل الطائفة، من خلال اتّهامه بالـ«تنميط»، ومنع هذه التعقيدات من الظهور إلى العلن. لكنّ ما كانوا يعترضون عليه فعليًا، هو خروجه عن الخطاب الرسمي لتمثيل الطائفة. فلم يقبل «مثقّفو» الطائفة وحرّاسها بصوت مختلف للتعبير عن الحياة اليومية لشريحة من اللبنانيين، ونصّبوا أنفسهم كالمتحدّثين الحصريين باسمها. كما رفضوا أي نقد، مهما كان خجولًا، قد يكسر الصورة «النمطية» التي رسمونها للطائفة.
حاول حسين قاووق في أعماله إبراز بعض الاختلافات وعدم التماسك داخل الطائفة الشيعية، بغية كسر الصورة النمطية عن الطائفة. المفارقة هي أنّ منتقديه أعادوا التمسّك بالتنميط وفرضوه بقوة التخوين والترهيب، وكأنّّهم يفضّلون التنميط المسيء على إمكانية النقد السياسي والإختلاف.
نمِّطوا الطائفة، ولكن لا تقتربوا منها، هذا ما يريده حرّاس الطائفة. فـمن يقوم بالتنميط هنا؟