«ترقّبوا»… «حصرياً»… «على شاشة»… في الخلفية موسيقى تصويرية كاتشي، أغنية تريندي وحزينة… اللقطة الأولى out of focus… لكن اللقطة الثانية full focus… صوت قذيفة… مؤثّرات بصرية… هذا كلّه، يظهر في الفيديو «الترويجي» فقط، في هذه الدقيقة التشويقية– للغاية– والتي تُعلن عن الإطلاق القريب لوثائقي «الطبيب الأخير». حتّى العنوان تحفة، غامض، يثير القشعريرة: «الطبيب الأخير».
أتساءل دوماً عن المسافة الفاصلة بين التوثيق وصناعة المحتوى، وكذلك بين التغطية الإخبارية والإنتاج السينمائيّ. وقد تكثّف هذا السؤال في ذهني عندما أطلقت شبكة «الجزيرة»، في وسط الإبادة، منصّتها الجديدة باسم «الجزيرة 360» هذه المنصّة التي بدأت على أنّها «المنافس العربي لنتفلكس»، وانتهت ببرامج (رغم تنوّعها وغناها) تصحّ أن تكون الكتيّب الدعائي للإخوان المسلمين، إذا ما قرّروا أن يعودوا إلى زمن التبشير والخلافة.. ثم أقنعتُ نفسي أنّه يجب أن أتخطّى الموضوع و«أتقبّل» التحويرات التي تطال صوَر الإبادة في ظلّ السوشيال ميديا– ولكن بعض الأمور مستفزّة أكثر من سواها.
أمس الاثنين، سُجّل مرور 200 يوم على اعتقال مدير مستشفى كمال عدوان الدكتور حسام أبو صفية من قبل قوّات الاحتلال الإسرائيلي. وقد تناوبَت المنصّات الإعلامية على إعادة التذكير بيوم الاعتقال، أو إنتاج موادّ أوسع تُعرّف بالطبيب، أو نشر مقتطفات من التصريحات المُقلقة لمحاميته: مثل أنّه فقدَ 40 كيلوغراماً من وزنه؛ وأنّه في عزلٍ انفراديٍّ داخل زنزانة لا تبلغها الشمس؛ وأنّه تعرّض للضرب المبرح على قلبه وصدره ووجهه.
سنضع جانباً عبثية «إنتاج الأخبار» أمام الإبادة، ونسلّم جدلاً أنّ مثل هذه التصرّفات التي عدّدناها للتو، هي تصرّفات حميدة.
في اليوم الـ200 (أيضاً، هذه العبثية بسرد الفظيع بحسب خطٍّ زمني تُحدّده الأرقام الجميلة – تخيّلوا الموادّ التي سوف ننشرها في اليوم 300 لاعتقال الدكتور حسام! متشوّق للغاية) — إذاً، في اليوم الـ200 لاعتقال أبو صفية، رأت «الجزيرة360» أنّ هذا هو الموعد الأنسب للإعلان عن «وثائقي» عن الدكتور حسام أبو صفية (وبمنطق المُنتَج المنشور، يمكن القول أنّه «من بطولة»، وليس «عن»، من دون أن يكون للدكتور حسام أي قول في هذا الأمر).
يبدأ الفيديو الترويجي بنظرةٍ للدكتور حسام نحو مجهولٍ ما، نظرة شاردة، يبدو فيها مهموماً، لتُرافقه أغنية «تلك القضية» لفرقة كايروكي. الأرجح أنّ الدكتور حسام لم يكن على علم (ولا هو على علم الآن) بأنّ صورةً له تجول على مواقع التواصل الاجتماعي مع هذه الأغنية.
أُشارك المقطع مع صديقتي لمى وأرفقه بتعليق: جنون إصرار الجزيرة على «سنمَأة» كل شي. فتُجيب:
هو الغريب انه كل هيدا انعملّه إخراج مسبق
مش غريب يعني
بس الي بشقلب المعدة بالموضوع
شباب غزاوزة انطلب منها تتابع ناس وتصورهم والصور اتخبت لحين صار وقتها
أيري بالحياة
أفكّر الآن أنّ هذه المقابلة التي سوف تُنشَر الخميس، موجودة بدرج «الجزيرة 360» منذ أكثر من 200 يوم.
والآن أفكّر بباقي الموادّ الموجودة بهذا الدرج. هل ثمّة مشاهد مماثلة لمدير مجمّع الشفاء الدكتور محمد أبو سلمية مثلاً؟ هل ينتظرون اعتقاله (من جديد) للإفراج عن هذه المادّة؟ هل صوّروا في الأشهر الأولى مقابلةً مع الدكتور غسّان أبو ستّة في مستشفى الشفاء، ولكنّهم نيّموا المادّة بعد أن خرج من قطاع غزّة؟
على سيرة مستشفى الشفاء، تجدون على موقع «الجزيرة 360»، وتحت خانة «أعمال الجزيرة 360 الأصلية»، وثائقياً آخر (بالأحرى، فيلماً رائعاً!) بعنوان «مستشفى الشفاء... جرائم مدفونة». أذكر أنّهم أطلقوا هذا الوثائقي، حرفياً، في قاعة سينما. جنون والله. حتّى أنّ «الجزيرة»، في معرض حديثها عن هذا العمل، تسمّيه «فيلماً».
(سجّلتُ الدخول مرّةً وحاولتُ أن أشاهد هذا «الفيلم»، وسكّرتُ حاسوبي عند الدقيقة الأولى، لفرط ما دُحشَت مؤثّرات سينمائية فوق المشاهد الإبادية. كانت قد مضت أسابيع قليلة على اقتحام وإحراق المستشفى، وكنت قد شاهدتُ للتو مقابلةً مع د. أبو ستّة وفيها شهادته المروّعة، والأهم، كنتُ قد تابعتُ تغريدات لغزّيين يروون فيها ما يعني لهم هذا المستشفى، ولم أتقبّل فكرة أنّ كلّ هذا —
— فكرة أنّ كل هذا قد أصبح الآن «فيلماً» مُمنتَجاً بأروَع التقنيّات البصرية، وأنّه حظيَ بعرض Premiere، في قاعةٍ مكيّفة روّادها ارتدوا أفخر الملابس وهنّأوا أنفسهم على إنتاج هذا العمل).
بالمناسبة، تذكرون المجزرة المروّعة في النُصيرات؟ يوم قتل الاحتلال 274 شخصاً، بذريعة «تخليص ستّ رهائن»؟ لم تتلكّأ «الجزيرة 360» عن واجبها في سَنمَأة كلّ شيء، وأنتجَت ما تسمّيه «وثائقياً»، تحت عنوانٍ رائع: «النُّصيرات 274». رائع! هكذا، حذف العنوان مفردة الـ«شخصاً»، وحوّلهم، حرفياً، إلى رقم: النُّصيرات 274. را – ئع!
أفكّر من جديد بالمسافة الفاصلة بين التوثيق وصناعة المحتوى، وكذلك بين التغطية الإخبارية والإنتاج السينمائيّ. وهل حقيقةُ أنّ شبكة «الجزيرة» هي الجهة «المُهَيمنة» على التغطية الإخبارية الغزّاوية، تعني أنّه يحقّ لها أن تتعامل مع الإبادة كمادّة سينمائية؟
هل هذا النقد يعني أنّ عكسه صحيح؟ أي، هل أُحاجج حقّاً أنّه من الأفضل ألّا تُنتَج هذه الأعمال؟ لا أعلم، ولا يهمّ. ليس هذا الموضوع. المشكلة أنّ «الجزيرة» تملك «شرعيةً» ما لدى الجمهور العربي. وما تطرحه «في السوق»، يُقابَل لدى عددٍ كبير بقبولٍ مُباشَر، أي أنّ «الجزيرة» مسؤولة عن «تشريط» مخيّلة المتابعين ونظرتهم، أي أنّها تعوّدهم حالياً على التعامل مع الإبادة كعملٍ سينمائي يتفرّجون عليه.
المشكلة الثانية أنّ توليف المادّة بهذا الشكل، يخفي شكل تصويرها. أعني، عند مشاهدة وثائقي بهذه «النضافة»، يصعب تخيّل ظروف إنتاجه، ظروف تصويره. أُطر النشر تحجب شروط العمل. نعم، «العمل». في نهاية الأمر، تصوير هذه المقابلة مع الدكتور حسام هو عمل مأجور بالمعنى الدقيق للكلمة، وكان على عمّال (صحافيّين) القيام به، بظروفٍ قاهرة. كان على أنس الشريف أو محمود شلحة أو غيرهما، أن يجدوا بقعةً لن تُقصَف، وأن تكون إضاءتها «مناسبة»، وأن يشحنوا معدّاتهم بشريطٍ موصولٍ على لوحٍ مُرتجَل للطاقة الشمسية، وأن ينقلوا معدّاتهم من خيمتهم إلى المستشفى رغم انقطاع السولار، وأن يصوّروا المادّة ثم يصعدوا إلى سطح مبنى ما لإرسالها إلى قطر بطريقةٍ ما، وربّما استُشهد منهم خلال هذه المهمّة أو بعدها. وكان على الدكتور حسام، بالمقابل، أن يسرق «استراحةً» بين عمليّتَين جراحيّتَين دقيقتَين للغاية، وأن يتمالك أنفاسه للجلوس أمام الكاميرا، وأن يروي ما رواه، قبل أن يعود من جديد إلى غرفة العمليّات. كل هذه الظروف غير مرئية في الدقيقة الترويجية الرائعة التي شاهدناها للتو. غير مرئية، بل محجوبة. بهذا المعنى، يزرع هذا الوثائقي مسافةً بيننا وبين الواقع. ويمكن بكل بساطة مقارنته بمُطلق أي فيديو صوّره مواطنٌ غزّي ونشره على صفحته عشوائياً، وقياس «درجات الواقع» بين المادّتَين، لنفهم هذه الفكرة بشكلٍ أفضل.
الأدقّ، عملياً، أنّ «الجزيرة 360» لا تتعامل مع الإبادة، بل أنّها تتعامل مع «الإبادة الفائضة». الإبادة تُركَت للغزّيين وحدهم.
وسّعتُ الفارق بين «الإبادة» و«الإبادة الفائضة» في نصّ سابق، طويل ومملّ. خلاصته أنّ الإبادة فظيعة لدرجة أنّها تفيض خارج الجغرافيا، وما نتلقّاه منها هو فعلياً نوعٌ من «الإبادة الفائضة». نحن بعيدون كل البعد عن الإبادة كما يعيشها أهل غزّة. لا أحد يتوهّم العكس. وفيما تنشأ العلاقة بهذا الاتّجاه (من الإبادة إلى الإبادة الفائضة) نظراً لفظاعة ما يجري «هناك»، تعمل العلاقة بالاتّجاه المعاكس (من الإبادة الفائضة إلى الإبادة) على تلطيف هذا الفظيع والتطبيع معه «هنا». الإبادة الفائضة تجعلنا نتصوّر الإبادة بشكلٍ ألطف ممّا هي عليه فعلاً. وهذا هو، بكل صراحة، الشعور الذي يخالج المرء عندما يشاهد هذه الدقيقة الترويجية لـ«الطبيب الأخير»، فيما يخضع الدكتور حسام حالياً لأقسى أنواع التعذيب في الزنازين الإسرائيلية.
في هذه الدقيقة الترويجية، أثناء المقابلة، تسقط قذيفة قرب المستشفى وتلتقطها الكاميرا، بل تلتقط أيضاً تعابير الفزع على وجه الدكتور حسام— ولا بدّ أنّ المخرج في الأستوديو القطريّ المُكيّف قد ابتسم عند توليف هذه اللقطة الرائعة.