شنّت إسرائيل حرباً على إيران. هذا ما قيل. لكنّ ما حدث كان شيئاً آخر تماماً: أداء استعراضيّ تألّق فيه دونالد ترامب منفرداً.
الأرجح أنّ الحرب، في بدايتها، كانت حرب نتنياهو وحده، إذ أشارت تقارير صحافيّة عدّة إلى أنّ الرئيس الأميركي كان يميل إلى مواصلة المفاوضات مع إيران، ولا يرغب في ضربة إسرائيلية قد تجرّه إلى تدخّل عسكري. لكنّ ترامب لا يحتمل أن يكون متفرِّجاً، ولا أن يورّطه أحدٌ في أمر لم يُردِه، فيبدو إذّاك ضعيفاً: فهو النجم دائماً، والرجل القويّ. لذلك كان عليه أن يختطف تلك الحرب، أن يجعلها حربه هو.
بحسب تقرير مطوَّل لصحيفة «نيويورك تايمز»، استيقظ الرئيس الأميركي في اليوم الأول من الحرب وراح يشاهد قناته التلفزيونيّة المفضّلة، «فوكس نيوز»، التي كانت تبثّ مشاهد متتالية للعمليات العسكرية الإسرائيلية، مصوِّرةً إيّاها على أنّها عبقريّة. لم يستطع ترامب إلّا أن ينسب بعضاً من الفضل إلى نفسه. وفي مكالمات هاتفيّة مع مراسلين، بدأ يُلمح إلى أنّه لعب في هذه الحرب، خلف الكواليس، «دوراً أكبر ممّا يظنّه الناس». ووفقاً للصحيفة، قال ترامب لبعض المقرّبين منه إنّه بات الآن يميل إلى الاستجابة لطلب الإسرائيليين تسليمهم قنابل خارقة للتحصينات لتدمير منشأة فوردو النووية.
اللغة التقريريّة الجافة التي تسرد بها «نيويورك تايمز» هذه الواقعة تحجب غرابتها الصارخة. فهي تُظهِر لنا القائد الأعلى للقوات المسلحة الأعتى في العالم وهو يتّخذ قرارات على درجة كبيرة من الخطورة، استناداً إلى ما شاهده صباحاً على القناة التي يُدمِن متابعتها. بمعنى آخر، تؤدّي «فوكس نيوز» هنا دور المستشار العسكري والسياسي.
وتُظهِر هذه الواقعة أيضاً أنّ ترامب، في اتخاذه قرارات قد تكون مصيريّة، لا يُعير أدنى اهتمام لا للمصلحة الأميركية العليا، ولا لمصلحة إسرائيل. فما يعنيه حصراً هو الصورة التي قد تعكسها هذه القرارات عن نفسه. تلك الصورة التي لطالما كان مسحوراً بها ولم يتوقّف عن رسمها منذ عقود طويلة: صورة رجل الأعمال، ثمّ القائد السياسي الأعظم والأنجح، الذي لا يعرف معنى الفشل، ساحقاً جميع خصومه ومحقِّقاً انتصاراً مدويّاً تلو الآخر.
لذلك كان عليه أن يخطف الأضواء من نتنياهو على الفور. فلم يكتفِ بالتلميح، كما جاء في تقرير «نيويورك تايمز»، إلى أنّ دوره في هذه الحرب أكبر ممّا يظنّه الناس، بل لجأ إلى منصّته «تروث سوشال»، التي يُدمِن الكتابة عليها، وقال ما يوحي بأنّه هو مَن يحرِّك إسرائيل، وأنّ نتنياهو لا يفعل سوى تنفيذ أوامره: قبل شهرين، منحتُ إيران مهلة 60 يوماً للتوصل إلى اتفاق. كان ينبغي عليهم فعل ذلك! واليوم هو اليوم الحادي والستّون. أخبرتهم بما يجب عليهم فعله، لكنّهم لم يتمكّنوا من ذلك. الآن، ربما لديهم فرصة ثانية!
منذ اليوم الأوّل، إذاً، استحوذ ترامب على هذه الحرب، فانتقل مسرحها من المدن الإيرانية والإسرائيليّة التي تتساقط عليها الصواريخ، إلى تصريحاته لوسائل الإعلام ومنشوراته على «تروث سوشال». إذّاك صارت الحرب مُعلّقة بشخص الرئيس الأميركي وكلامه، فضاع معناها، وتلاشت أهدافها. كان الهدف الإسرائيلي المعلَن تدمير القدرات النووية الإيرانية، ثمّ تحوَّل إلى إسقاط النظام– وهما هدفان «منطقيّان» بالمعايير الحربية التقليدية؛ لكنّ ترامب– وعلى «تروث سوشال» بطبيعة الحال– طالب إيران بـ«استسلام غير مشروط»، من دون أي توضيح آخر. مطلب غائم قد يعني أشياء كثيرة: فهل على إيران أن تعود إلى طاولة المفاوضات وتُذعِن لجميع الشروط الأميركية؟ أم أنّ عليها فتح مدنها للغزاة؟ أم أن تُدمِّر منشآتها النووية بنفسها؟ أم ربمّا تُسقِط نظامها بيدها؟ لا أحد يدري.
بسهولة فائقة، نجح ترامب في أن يجعل من نفسه محور الحرب ونجمها الأوحد. وكان سلاحه الأبرز في ذلك عنصر التشويق بشأن الدور المحتمل للولايات المتحدة: هل ستتدخّل؟ كيف؟ ومتى؟ أسئلة تعمّد أن يحيط أجوبتها بالغموض، ويتركها مفتوحة على كل الاحتمالات– لا لإرباك العدو كما يُفترَض، بل لإبقاء متابعيه في جميع أنحاء العالم في حالة ترقّب دائم، متشوّقين لمعرفة ما سيقوله أو يقدم عليه في اليوم التالي. من هذا المنظور يمكن فهم ما نشره على «تروث سوشال» حين قال إنّه ليس بصدد تصفية الخامنئي، على الأقل في الوقت الحالي؛ أي أنه قد يبدّل رأيه في أي لحظة كانت، وعلى الجميع البقاء في حالة من الترقّب والقلق والإثارة.
لكنّ التشويق لا يمكن أن يدوم إلى الأبد. فالمشاهد يملّ حين يطول الفيلم من دون أن يبلغ ذروته. لذلك كان على ترامب أن يقدم على خطوة مُبهِرة. صرّح أنّه سيمهل إيران أسبوعين كحدّ أقصى، ثمّ، وبعد يومين فقط– إنّه عنصر المفاجأة الذي يُثير الجمهور– أرسل طائراته التي ألقت على المنشآت النووية الإيرانية قنابل خارقة للتحصينات.
وهكذا، كان لا بدّ للفيلم أن ينتهي. فاستمراره قد يعرّض ترامب لخسارة دور البطولة: بعد يومَين من الضربة، أعلن التوصّل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، مُهنّئاً الطرفَين على ذلك– وربمّا أيضاً على أداء كلّ منهما الدور المنوط به في هذا العرض السينمائي. وحين كاد الطرفان أن يخرقا وقف إطلاق النار، وبّخهما كطفلين مباشرة على الهواء، بل وشتمهما. انتهى العرض إذاً، وأُسدلت الستارة، وفوق نجاحه في الاحتفاظ بدور البطولة، استطاع ترامب إرضاء كلا الشطرين من قاعدته: مؤيّدي الانخراط في الحرب، ورافضي أي تدخّل أميركي. ذاك أنّه تمكّن من أن يُظهِر، في آنٍ واحد، جبروت أميركا العسكري، وقدرتها على حلّ النزاعات وإحلال السلام بتدخّل سريع، حاسم وخاطف، لا يورطها في الحرب. وتأكيداً على أنّها حربه هو، أعاد تسميتها، فصارت «حرب الإثني عشر يوماً» بدلاً من «عملية الأسد الصاعد».
ما الذي تحقق في هذه الحرب، سوى سطوع نجم ترامب للمرة المئة أو الألف؟ الطرفان أعلنا النصر، وبقي مصير البرنامج النووي مجهولاً. ترامب لا ينفكّ يصرّ على أنّه دمّره تدميراً كاملاً، مُكذِّباً تقارير مسربة تشير إلى أنّه تأخّر بضعة أشهر فقط، وأخرى تزعم أنّه تأخّر بضع سنوات.
لكن بغض النظر عن الأهداف وما إذا تحقّقت أم لا، فإنّ هذه الحرب تتّسم بضبابيّة بالغة. ذاك أنّها امتداد لشخصيّة ترامب– لفوضويّته ومزاجيّته ونرجسيّته وميوله الاستعراضيّة وتبجّحه الدائم بنفسه. معناها الملتبس هو انعكاس لغرابة ترامب وغموضه: رجل شفاف تماماً، يُعبِّر عن غرائزه بعفويّة وبلا أي فلترة أو غربلة، لكنّه في الآن عينه عصيّ على الفهم، إذ يبدو فارغاً بالكامل، بلا أيّ حياة داخليّة. لذلك فإنّ الأُطر التفسيرية التقليديّة مثل الاستراتيجيّة العسكرية والمصالح الجيوسياسية قد لا تكفي وحدها لفهم هذه الحرب، إذ ثمّة عامل لا يؤخذ عادةً في الحسبان، لعب فيها دوراً كبيراً– إن لم يكن الأكبر– وهو سيكولوجيا دونالد ترامب نفسه.
بمعنى آخر، فإن نرجسيّةَ ترامب تُشكِّل عاملاً جيوسياسيّاً حاسماً، ما يُجيز القول إنّ حرب الإثني عشر يوماً كانت ساحتها ذهن الرئيس الأميركي أكثر منها أراضي البلدَين المتقاتلين فعليّاً.