تحليل هندسة الانهيار الاقتصادي
خالد صاغيّة

حين علكوا الاقتصاد ثمّ بصقوه

8 كانون الأول 2020

ليست النهاية التي نشهدها اليوم للنظام الاقتصادي الذي حكم لبنان منذ وصول الرئيس المغدور رفيق الحريري إلى الحكم، نهاية مفاجئة. فنهايةٌ كهذه، كأيّ موت آخر، هي ما كان يعرف الجميع أنّها آتية من دون أن ينتظروا وقوعها.

وصل المشروع الحريريّ ووعوده الربيعيّة إلى حائط مسدود منذ العام 1996 على الأقلّ. أدرك الجميع آنذاك أنّ البلد دخل حلقة الاستدانة المفرغة لتغذية أمراء الحرب وإشباع حيتان السلم، وأنّ مشاريع البنى التحتيّة ليس من أولويّاتها الخدمات الأساسيّة للمقيمين الذين تبخّر حتّى حلمهم البسيط بكهرباء 24/24. أمّا مشروع تحويل بيروت إلى مركز تجاريّ لشرق أوسطٍ يسوده السلام، فهو مشروع بدا معلّقاً في أحسن الأحوال، أقصى طموحاته المتبقيّة إنجاح أشهر التسوّق في شباط واستقطاب السياحة الخليجيّة في الصيف.

لكنّ انهيار النظام المالي والاقتصادي الذي نشهده اليوم ليس نتاج الرؤية الحريريّة وحدها، بل هو أيضاً نتاج معارضتها. فتلك المعارضة أدّت إلى انعدام الثقة بأيّ طرح اقتصاديّ مغاير، ورسّخت فكرة الـ«لا بديل» للنظام القائم. وعند المحطّات المفصليّة، كان يتّضح دائماً أنّ المعارضة الاقتصاديّة هي أوّل ما يتمّ التضحية به لتحصيل مكاسب سياسيّة. منذ التسعينات إلى اليوم، كما يذكّرنا فيديو قصّة اقتصاد، تناوب على هذه المعارضة ثلاث قوى كبرى تمكّنت من عَلْك خطاب اقتصادي معارض، قبل أن تلقي به في أقرب سلّة مهملات.

أوّلاً، الأجهزة الأمنيّة

حين وصل إميل لحّود إلى الرئاسة العام 1998، كانت المعارضة النقابيّة للحريريّة قد تلقّت الضربات واحدةً تلو الأخرى وصولاً إلى تمكُّن السلطة من شقّ الاتحاد العمّالي العام 1997. فبدا قائد الجيش الآتي بخطاب لقلب السياسات الاقتصاديّة الحريريّة، كآخر نافذة للتخلّص من تلك السياسات. لم تكن صورة لحّود آنذاك بالكاريكاتوريّة التي انتهى إليها. فقد جاء مسلَّحاً بدعم حافظ الأسد شخصياً، وبدعم المؤسّسة العسكريّة، وبشعبيّةٍ مسيحيّة تائقة إلى «الرئيس القوي»، إضافةً إلى تراثه العائليّ كابن جميل لحود صاحب التوجّهات الاقتصاديّة اليساريّة. لكنّ كلّ ذلك تبدّد أسرع من الدخان. وبعد نقاشات طويلة لخطّة إصلاحيّة، حسم رئيس الحكومة آنذاك سليم الحصّ الأمر مبشِّراً اللبنانيّين بأنّ حكومته ملتزمة بالسياسات السابقة، وستكتفي بمحاربة الهدر والفساد. وازداد الأمر تعقيداً حين أدركت المصارف قوّة موقعها الجديد في النظام، فقاومت حتّى محاولات خفض الفائدة على الدين بشكل جدّيّ حارمةً الدولة من خفض عجزها. وبينما كان الإصلاح الاقتصاديّ يتراجع، كان المشروع الأمنيّ والشراكة في النهب تتقدّم من خلال تسلُّط الأجهزة الأمنيّة ومحاولة استيلائها على الفضاء العام، قبل أن يغرق البلد بالتفجيرات والاغتيالات.

ثانياً، العونيّة

عند عودته من المنفى، خاض ميشال عون انتخابات 2005 ببرنامج اقتصاديّ على يمين الحريرية. فقد اتّهم البرنامج العونيّ الحريريّة بأنّها ليست نيوليبراليّةً كفايةً، ودعا للتخلّص من الآفات الكينزيّة التي لا تزال رواسبها موجودة في الاقتصاد اللبناني. لكنّ الجنرال الطامح للرئاسة، والمتحالف مع حزب الله، سرعان ما انتبه أنّ زكزكة الحريري الصغير تتطلّب خطاباً اقتصادياً مغايراً. لم يكتفِ ميشال عون بخطابه المعتاد حول مكافحة الفساد، بل انتقل إلى رفع لواء «الإصلاح» وفرضَ اقتصادياً يسارياً هو شربل نحّاس وزيراً في حكومتيْن، قبل أن يتخلّى عنه في سوق المقايضات ويدفعه إلى الاستقالة العام 2012 بعد معركةٍ حاول نحاس خوضها حول تصحيح الأجور. ومن دلالات تلك المرحلة أنّ مَن حمل كتاب استقالة نحاس إلى مجلس الوزراء ليس إلا الوزير جبران باسيل نفسه.

ربّما شكّلت تلك اللحظة برمزيّتها نهاية مشوار «الإصلاح» العونيّ، ولم تشكّل صفقات وزارة الطاقة اللاحقة إلا تمهيداً للمقايضة الكبرى من خلال التفاهمات التي عقدها باسيل مع نادر الحريري قبل وصول عون إلى الرئاسة. فمدّد «العهد القوي» لرياض سلامة بعد ضمان حصّة لمصرف «سيدروس» من الهندسات المالية. وحين انفجرت الأزمة، لم يجد حزب المصارف إلا نائباً عونيّاً ليخوض معركته من خلال لجنة المال والموازنة.

ثالثاً، حزب الله

في خطابه الذي تلا اعتذار مصطفى أديب عن تشكيل الحكومة، أعلن الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله أنّ حزبه مهتمّ بالمشاركة في الحكومة للتأكّد من عدم فرضها ضرائب جديدة. تأتي هذه الحجّة تتويجاً لمسار طويل من (سوء) استخدام حزب الله للمسألة الاقتصادية لتحقيق مكاسب له أو لطائفته. فحزب الله الذي طالب بعد حرب 2006 بالعودة إلى تقاسم العمل بين الاقتصاد والمقاومة، ثمّ رفع راية الإصلاح في وجه سعد الحريري للحصول على تنازلات في ملف المحكمة الدولية آنذاك، سرعان ما انخرط في حرب الدفاع عن آل الأسد ومخلوف الذين نهبوا سوريا قبل أن يدمّروها، ليعود من تلك الحرب وريثاً للنظام السوري في إدارته الحلبة اللبنانية التي دفعت ثمن (حرفياً ومعنوياً) مغامرات حزبها المسلّح. انتقل حزب الله من المعارضة إلى ضابط الإيقاع، وبات في قلب حلقة الفساد. حتّى أنّ أمينه العام لوّح بالمخاطرة بحياته والظهور شخصياً لحثّ الناخبين الناقمين على الاقتراع للحزب قبيل انتخابات 2018. يومها، أوهم نصر الله أتباعه أنّ مكافحة الفساد باتت ضمن أولويّاته، قبل أن يبيعهم بعد 17 تشرين أوهام الجهاد الزراعي والتوجّه شرقاً، وقد بات حزبه رأس حربة الدفاع عن النظام بفساده ونهبه المنظّم. فامتدح نصر الله ورقة الحريري الإصلاحيّة، وأعلن العهدَ العونيّ خطّاً أحمر في وجه المتظاهرين الذين أرسل لهم شبّيحته، قبل أن ينتقل حزبه لحماية رياض سلامة عبر الإطاحة بالتدقيق الجنائي بحجّة علاقة الشركات المتخصّصة بإسرائيل. وحين كانت العملة تنهار، كان الوزير التكنوقراط لحزب الله يبيع المزيد من الأوهام، مصرِّحاً من أمام مجلس الوزراء أنّ سعر صرف الليرة ثابت اليوم، وغداً وبعد غد.


لقد امتهنت هذه الأطراف الثلاثة الخطاب الاقتصادي المعارض، وفرّغته من معناه. تسلّقت على هموم الناس المعيشيّة لتصبح شريكةً في النهب أو لتحقّق مكاسب سياسيّة. نهبت مع الذين نهبوا، لكنّها أخذت في طريقها أشياء كثيرة، بينها اللغة. تلك اللغة التي باتت سجينةَ أيقونة الشهادة الحريريّة وأيقونة المقاومة الحزب اللهيّة. تلك اللغة التي استعادها لوهلةٍ الشارع في لحظة 17 تشرين. لغة أطلقتها الحناجر، لكنّها بدت كرسالة واتساب لم تكتمل أحرفها الأولى:’M-C-M .

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
5 تُهم ضدّ نتنياهو وغالانت 
الاتحاد الأوروبي: قرار المحكمة الجنائية مُلزِم لكلّ دول الاتحاد
مقتل باحث إسرائيلي كان يبحث عن «أرض إسرائيل» في جنوب لبنان
قتيل بصواريخ حزب الله على نهاريا