تعليق مصر
رشا عزب

دعوا كل أسير محرَّر يمشي على النيل

مصر ليست منفىً إجباريّاً 

23 تشرين الأول 2025

اللحظة لا تُنسى، له ولنا، بعد جوع طويل، له ولنا. 
جوعه للمشي، للنور ولسماء مفتوحة بلا قناع، وجوعنا أن نحيا بلا إذلال أو خذلان تحت كل هذه الشمس. هي لحظات استثنائية، وإن كانت غير كفيلة بتغيير كل هذه الأوضاع، أن يمشي فلسطيني محرَّر على جسر قصر النيل، بعد 21 عاماً في سجون الاحتلال الصهيوني.

وصل باسم خندقجي إلى القاهرة مع 153 مبعداً ضمن صفقة تبادل الأسرى بين حماس والاحتلال الصهيوني. رأينا الكاتب الأسير يترجّل خارج الزنزانة، كأنّها لحظة متخيَّلة تماماً. مَن منّا لم يشعر بهزّة في الأحشاء؟ حين طالعنا وجه باسم على صفحة النيل، تعرّف أحد المارّة على باسم، وألقى عليه التحية، وقد تبيّن لاحقاً أنه رفيق من وجوه الحراك السياسي حتى ثورة يناير. كانت مفارقة قدرية بحتة، كأنها تحية منا جميعاً. 

يتجوّل باسم قليلاً بين مكتبة تنمية وشوارع وسط البلد. يستردّ الكاتب هواء رئتيه وكلامه، هو المبعد عن وطنه بقرار من الاحتلال، وتَستردّ أرض بلادنا بهذه الصورة الكثير من المعاني التي فقدناها خلال عامين من الإبادة. لم تكن مصر يوماً منفىً إجبارياً، لم نكن زنزانة خلفية لأكبر سجن على الأرض، قطاع غزة المحاصر. غير أنّ صورة باسم الأخيرة تعيد بلادنا كسلوى للمبعدين قسراً من أوطانهم وملاذ الهاربين من الاحتلال والاستعمار، وهذا ما نريده لهذا الوطن. ما كان له، لا بدّ أن يسترد، من البحر للنهر. 


قالت لي صديقتي قبل الذهاب إليهم، ستعرفينهم كلهم وحدك، أجساد هزيلة لا تتجاوز الستّين كلغ وعيون جاحظة تنظر إلى كلّ شيء في دهشة. أجساد خفيفة حملت أحكاماً ثقيلة، وخروجهم معجزة. 

تبدو سياسة الإبعاد من الوطن كواحدة من أشكال العقاب المستدام لمرحلة ما بعد هزيمة 1967، الإبعاد من الداخل المحتل إلى غزة، وكأنهم أرادوا تحويل قطعة أخيرة من الوطن إلى منفى اجباري وسجن جماعي. ورغم مخالفته لأحكام الاتفاقيات والمعاهدات الدولية وقرارات الأمم المتحدة، إلا أنه لا يزال ساري المفعول.

وفي كلّ الأحوال، ستظلّ مصر محطةً جغرافيةً إجباريةً للإبعاد، لكنها يمكن أن تصير المحطّة الحاضنة الداعمة أيضاً. تحتاج مصر أن تبدو كذلك، في هذه اللحظة، تحتاج أن تستردّ جزءاً من دورها المفقود في عملية التوازن السياسي المختلّ لصالح الكيان الصهيوني، أن تستردّ نفوذها لتغيير الواقع لا لترسيخ البشاعة وفرض تعليمات الاحتلال. أمامَنا لحظةٌ لتعويض الممارسات الرديئة والرخيصة التي وقعت طوال عامين. هلّل أعوان النظام وخصومه لاحتضان مصر هذا الاتفاق، وبالغوا في تصوراتهم إلى درجة ساذجة، مما يعني أنّ الكل كان منتظراً لتحويل المسار المعيب، ولو أنكروا جميعاً. 


يخرج باسم من الفندق، بعد وساطة عدد من الشخصيات لدى جهات سياسية، وكان هذا ذكياً لأنهم حصلوا على مقابل سريع لهذه الفكرة. ذلك أنّ الحاصل على البوكر من سجن الاحتلال، يمشي قليلاً في القاهرة، ويتنفّس النيل كما حلم. 
هناك أسيرٌ قضى 43 عاماً في الأسر، وآخر قضى 30 عاماً، وأغلبهم من ذوي الأحكام الثقيلة، وبعد ذلك وجدوا أنفسهم مبعدين بحق، لا يخرجون نهائياً من الفندق، ورجال الأمن مزروعون في كل مكان. لا ضير أن يبحث الوسطاء عن منفذ إنساني لهؤلاء العائدين من الجحيم لحين تنسيق خروجهم من مصر. نعلم، بالممارسة الفعلية، كيف تستطيع أجهزة الأمن المصرية السيطرة على حياة البشر حتى ولو كانوا يتجولون في الشوارع ويتصورون أنهم أحرار. ربما سيكون ذلك أكرم من الحصار المفروض على أغلب المبعدين، ويستكمل النظام جني المكاسب الدعائية كما حدث مع باسم خندقجي. 
كلّ ما نتمنّاه أن يظلّ مقرّ إقامتهم مفتوحاً لزيارات المصريين، وأن يحصل أكبر عدد منهم على حريته للمشي والحركة، وألا تتكرر مأساة المرضى والمصابين الذين قدموا إلى مصر خلال العامين الماضيين. ففي بدايات الحرب، حاول عدد كبير من المواطنين والنشطاء والفاعلين السياسيين، تنظيم زيارات للمصابين في المستشفيات، وكانت الزيارات ممنوعة، والخروج من المستشفي خطراً كبيراً على ذويهم. وبعد عدة محاولات شعرنا بالخطر عليهم من زيارتنا، حيث خضعوا لحصار كبير، لم يفكه إلا مساهمات استثنائية للمصريين المتعاطفين مع أوضاع المصابين.


يمكن لمصر أن تغيّر المشهد، لا بالحفلات السياسية وحدها، بل بالمواقف والانحيازات. ففي صفقة التبادل الأولى، كانت قطر عرّابة الاتفاق سياسياً ومالياً، وتمّ نقل الأسرى إلى فندق يتبع جهة سيادية في العاصمة الإدارية الصحراوية بينما دفعت قطر نفقات إقامتهم، وكانت الزيارات شبه مستحيلة. لكن في الاتفاق الأخير، رفضت بعض البلدان الاستقبال ووافقت مصر على استقبال عددٍ كبير لفترة محدّدة. لكنّ المختلف، هذه المرّة، هو أنّ الرعاية مصرية، وقد حصل النظام السياسي في مصر على مبتغاه من مؤتمر السلام الوهمي، لكنّ غزة لم تحصل على أي ضمانات. تحوّل مؤتمر شرم الشيخ إلى حفلة على نفقة الشعب المصري، لتنصيب ترامب ملكاً لأصحاب الجلالة والفخامة والسمو ورؤساء العرب، احتفالية بلا أي التزامات سياسية، فوق أنقاض مدينة تحتاج إلى 15 عاماً لرفع الركام الذي تسبّبت فيه الأسلحة الأميركية والأوربية. لم يأتِ ترامب إلا لتأكيد استلام الرهائن الصهاينة من حماس، ولن يأتي إلى هذه المنطقة إلا ليأخذ شيئاً. وإن لم تتحصّن مصر مع شركاء إقليميين لخلق تحالف بديل للتحالف الخليجي الصهيوني، خاصة وأنّ الاتفاق يبدو أكثر هشاشة كل يوم، مع استمرار العدوان الصهيوني على غزة وموت العشرات، فلن تنجو غزة، ولن تنجو المنطقة. 
من المؤكد أنّ غزة وأهلها وأسراها يحتاجون أكثر من الدعاية، يحتاجون للدعم الحقيقي، المبذول في اتجاه وقف مخطط التهجير، وقف المجاعة، فتح المعابر، دخول الاحتياجات الأساسية، دخول الأطباء والصحافيين إلى غزة.
لا تجعلوا من مصر منفى إجبارياً لكل هؤلاء الذين لم يختاروا الإبعاد عن ذويهم وعائلاتهم بعد سنوات من الأسر تحت قهر الاحتلال. نريد أن نتفق، ولو لمرّة، أنّ على مصر أن تتحرك في الاتجاه الاستردادي الصحيح لموقعها، أن تعود في قلب القضية الفلسطينية سياسياً، بعد أن غابت شعبياً وسياسياً واكتشفت بدور الجار الذي يصدر بيانات الشجب والإدانة بينما العلاقات الاقتصادية مع الاحتلال تزدهر في التصدير والاستيراد في لحظات الابادة، بل وتُحاصَر كل أشكال التضامن الحقيقي مع فلسطين ولا يزال يُسجَن المتضامنون معها، والمعتقلون منذ عامين.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 5/12/2025
70,000 م2 من الأملاك العامة البحرية عادت إلى اللبنانيين بقرار قضائي
ياسر أبو شباب: نهاية عميل
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
04-12-2025
أخبار
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
04-12-2025
تقرير
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
وقائع اجتماع «الميكانيزم»: المنطقة العازلة أوّلاً