نقد ثقافة
عدي الزعبي

رسالة إلى طارق أبي سمرا

5 تموز 2025

العزيز طارق،

قرأت تذمّرك من نفسك، وتنمّرك على ذاتك، بسبب عجزك عن قراءة الأعمال الواقعية. ولقد سبّب لي تذمُّرك ذاك أرقاً لمدة أسابيع، لم أستطع التخلّص منه. وأزعجني (الأرق، لا أنت)، وعصر مخّي وأعصابي، وسبّب لمعدتي المتعبة غثياناً مستمرّاً. 

طيّب، تسألني لماذا؟ لماذا هزّني تذمّرك من الواقعية؟ 

الجواب بسيط. من جهة: لأنني أكتب أدباً واقعياً، وتذمّرك، ضرب على الوتر الحساس. 

ولكن، هذا لا يكفي: ما قلتَه كشف لي أنني، في الحقيقة، ممتعض من الواقعية، من واقعيتي، من التصاقي بالواقع، من الواقع الذي أعيشه. عجزك كان القشّة التي قتلت البعير- أو أيقظته، فرمى الحمل عن ظهره. 

لنبدأ من البداية: بلزاك!

بلزاك أبو الواقعية، وجدّها، وخالقها. بالطبع، بقي الجدّ أعظم من أحفاده. كما كان باشو مع الهايكو، وكافكا مع الفنتازيا. لا يتجاوز الأبناء الجدّ: يقلّدونه، أو يقتلونه. 

قلتَ إنك لم تستطع قراءة بلزاك. للدقة، لم تستطع قراءة/ فهم الوصف البصري: أي لم تستطع أن ترسم لنفسك صورة ذهنية للوصف البصري؛ بلزاك يرسم المنزل بالكلمات، وأنت تقف مفجوعاً أمام الرسم.

دعني أتوقف هنا: ما حدث بعد ذلك لك، سأختصره، ولن أعود إليه، لأنني سأركز على أمرٍ آخر، منطلقاً من عجزك الرهيب.

قلتَ إنك اكتشفت أنك مصابٌ بالمخيلة العمياء: أنك عاجزٌ عن تصوّر الوصف البصري. وهذا مرضٌ نادر، وأنت مصابٌ به: هذا، بحسب مقالك، ما يمنعك من قراءة/ فهم الوصف البصري عند بلزاك. 

ولكن، يا طارق، أنا لستُ مصاباً بالمخيلة العمياء؛ ومع ذلك، لا أستطيع قراءة/ فهم الوصف البصري. إذن، نفترق مبكراً جداً، وكلانا يعاني بشدّة: هل هناك معاناة، أشدّ من العجز عن فهم بلزاك؟ 

دعني أشرح لك ما حصل معي، وأتمنّى أن يتّسع قلبك لما سأقوله.


ملتزماً بتنشئتي الماركسية، سأبدأ بالواقع الموضوعي الذي عاش فيه بلزاك. باختصار، الظروف الاقتصادية في فرنسا في بداية القرن التاسع عشر، غيّرت معنى الأدب: صعود البرجوازية وتراجع الإقطاع، خلق «الواقعية الفرنسية»، وأبطالها (المؤلفون وأبطال الروايات في آن معاً) ليسوا بالضرورة معبّرين عن الإيديولوجيا الصاعدة علناً، ولكنهم يحملونها بالضرورة، بسبب ظرفهم التاريخي: بلزاك، وفلوبير، وموباسان، وزولا، والرسم الانطباعي. الأدب يعكس الواقع، وأذواق الجمهور الصاعد. 

انا لا أعاني من المخيلة العمياء، ولكنني أعاني من الملل الشديد عندما يصف بلزاك، أو فلوبير، أو أي واقعي آخر، الواقع، بشكل أعتقد أنه أكبر من المطلوب. لستُ ضد الواقعية، ولكنني ضد الوصف البصري المبالغ به. لستُ ضد بلزاك، ولستُ معادياً له: بل على العكس، أعتقد أن رواية الأب غوريو تعبيرٌ صادق، وحساس، وساحر، عن الحياة. 

إذن، ما الذي يؤلمني في الوصف البصري، أنا الواقعي: أكتب الأدب الواقعي، وأؤمن بفلسفة تعترف بالواقع (ضد النسبويّة وما بعد الحداثة)، وأسعى (بجدية بالغة لعينة تنتمي إلى الزمن البائد) إلى تغيير الواقع؟

الأسطر الثلاثة التي افتتحتَ بها مقالك عن المخيلة العمياء، هي بالضبط مصيبتي: 

لطالما أزعجني الوصف البصري في الروايات، إذ كان يبدو لي حشواً رتيباً لا طائل منه. لست أقصد بذلك الإشارةَ العابرة إلى أنّ هذه الشخصيّة أو تلك سمينة أو نحيفة، أو أنّ شعرها أشقر أو أسود، أو أنّ السماء صافية زرقاء أو ملبّدة بغيوم داكنة، بل أعني ذاك الوصف التفصيليّ لمشهدٍ طبيعيّ، أو ملامحِ وجهٍ، أو فستانٍ ترتديه امرأة، أو حيٍّ في مدينة...

قد يكون الأمر، في حالتي أنا، أصعب من المخيلة العمياء: ربما، أنا لا أفهم الواقع، لا أفهم الحياة، لا أفهم الأدب- لا أفهم الادب الواقعي، الذي سخّرت له حياتي. 

اكتشفتُ، لاحقاً، بعد معاناة طويلة وشديدة، أنّ السرّ يكمن في ما وصفتَه أنت بدقّة: الوصف التفصيلي. وهكذا، تتعلّق مشكلتي فقط به. الإشارة العابرة تجعلني أحلّق، بمرح، مع الكاتب. وربما، لهذا السبب أكتب القصص القصيرة، وأقدّس روّادها: موباسان، وتشيخوف، ومانتو، وأكوتوجاوا، وبورخيس، وإبراهيم أصلان، وأمثالهم.  

بالنسبة لنا، الواقع ليس الوصف التفصيلي، بل الواقع إشارة عابرة. ماشي؟ 

لا، مو ماشي. 

هذا تفضيل جمالي، وليس نظرية، وليس مرضاً، وليس نقداً. تفضيل جمالي، فقط، لا غير. 

هكذا، أوقعني عجزك في محاولة فاشلة- محاولة لإعادة تعريف نفسي، والواقع: الواقع إشارة عابرة، وليس وصفاً تفصيليّاً. من هنا ينبع حبّي للهايكو، والانطباعيين الفرنسيين، والقصة القصيرة، والسُّوَر المكية، وقصائد إميلي ديكنسون، ويوميات حج جلال آل أحمد، ومقطعات أبي نواس والمعري، ونثر تشيخوف. 

هذا، في الحقيقة، يبدو تجميعاً لفلسفات متناثرة، كلٌ منها يدّعي شيئاً مختلفاً عن الآخر، وأنا أقف حائراً بينهم، أتصيّد ما يعجبني، لأنني لا أريد لأحد أن يصف لي بالتفصيل الواقع: لأنني أخشى الواقع. 

ثمّ ماذا؟ 

ثمّ وجدتُ أنّ علاقتي المحبَطة مع الواقع، في الحقيقة، مجرّد محاولة للتخفّي، أو، لتشطير الواقع، الذي لا أجرؤ على التحديق فيه كما هو- علاقتي التي تقتصر على ولعي بكتابة القصة القصيرة والمقال الأدبي، واقعي المشطور المتناثر الهباء...


طيب، بعد ما قيل، يعود الماركسي الملتزم- ولكن المنفتح على ما يحصل من تطورات في الأدب والفلسفة- ذلك الرجل الطيب المتفائل في داخلي، إلى نظريته: يا عُدي، يا حبيبي، يا ابني (دائماً يتكلم معي بلهجة متعالية تعليمية!)، الوصف التفصيلي الذي ادّعيت أنه يفصلك عن الواقع، ويشوّه/ يكشف علاقتك به، وبنفسك، ليس إلا معطىً موضوعياً لمرحلة زمنية محددة في تطور الرأسمالية في أوروبا الغربية: ليس معطى ثابتاً أبدياً عن الأدب، ولا مفهوماً سرمدياً يجب التمسك به. 

من المؤسف أن تقفز إلى استنتاجات حول الواقع والأدب، بسبب عدم فهمك للتحليل الطبقي الماركسي المادي لمعنى الأدب. 

تستطيع أن تقفز بالزمن قليلاً، وترى كيف تطورت الواقعية، وتنوّعت، من حسية كاواباتا إلى سكينة محفوظ، وما بينهما من عوالم متنوعة، دون الوقوع في فخ الوصف التفصيلي. 

ربما، عليك أن تتعلم كيف تصف الواقع، أو تقرأ الواقع، أو تفهم الأدب الواقعي، من خلال توسيع دائرة التحليل الماركسي (وليس تضييقها على طريقة الالتزام الواقعي ومدرسة فرانكفورت)، والإضافة عليها. لا تتقوقع (بالله عليك يا طارق، من يستخدم كلمة «تتقوقع» هذه الأيام، باستثناء القوميين والماركسيين وأصحاب الإيديولوجيات؟)، وأعد تعريف نفسك، والأدب، بهدوء.


اعذرني على كل ما سبق. ولكن المخيلة العمياء، التي احتميتَ بها، لم تساعدني. أقصد أن عجزي أمام الأدب التفصيلي، جعلني أسائل التزامي الماركسي ذاته: هل أنا صادقٌ، أم مدّعٍ، أم خائر؟ 

وهذه الأيام (العقد الأخير بأكمله)، أكاد لا أقرأ روايات، بسبب الوصف التفصيلي. تحوّلت اهتماماتي إلى زوايا أخرى؛ ولم تعد الرواية تثيرني، أو تشدّني، أو تماحكني، أو توبّخني. الشعر يفعل كل ذلك، وأشكال مختلفة من الكتابة أيضاً: من أدب الرحلات، واليوميات، والرسائل، وفن المقال- وبالطبع، القصة القصيرة. وأحياناً، حتى العمارة- ليس الرواية. 

عندما قرأت مصطلح «المخيلة العمياء»، شعرتُ بالذعر الشديد. خفتُ أن أكون مصاباً بها. ثم حمدت الله أن المرض الذي تعاني منه لم يصبني. 

ولكنني، بعد طول تفكير، أشعر أنني أنا الخاسر في هذه اللعبة: أحياناً، أتمنى أن نتبادل الأدوار، أن تعطيني المخيلة العمياء، وتأخذ مني تشطيري لواقعي، وعجزي عن التحديق فيه.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
تعليق

أوروبا تعترف بفلسطين

سمير سكيني
39 دولة لم تعترف بفلسطين بعد
22-09-2025
تقرير
39 دولة لم تعترف بفلسطين بعد
حدث اليوم - الإثنين 22 أيلول 2025
22-09-2025
أخبار
حدث اليوم - الإثنين 22 أيلول 2025
الاتفاق الدفاعي السعودي الباكستاني: 6 عوامل تشرح التوقيت والأهداف
22-09-2025
تقرير
الاتفاق الدفاعي السعودي الباكستاني: 6 عوامل تشرح التوقيت والأهداف
إقفال شامل في إيطاليا من أجل غزّة
تعويم سوزان الحاج: 3 أسباب للتراجع