غنى البيّات. إسم جديد. امرأة أخرى. والقضية نفسها: اختطاف طفلة من أحضان أمّها.
تظهر علينا غنى في فيديو تناشد فيه الناس، والأمهات بشكل خاص، بإيصال صرختها إلى المعنيين، وإلى المحكمة الجعفرية في بعلبك تحديداً: أنا زوجي سرقلي بنتي، عمرها ١٥ يوم! سرقلي ياها وما عم بخليني شوفها. تخاطبنا غنى، تتوسّل مساعدتنا، نحن الرأي العام أو المشاهدين والمشاهدات، ترينا صورة لإبنتها الرضيعة في المستشفى على شاشة تلفونها. ثمّ تجهش في البكاء، مناشدةً المحكمة: عطوني ولو ورقة إرجع آخد بنتي، عمرها ١٥ يوم! جرحي بعده… جرحي بعده عم يوجعني! بعدني أنا أم! بعده الحليب فيّ! تريدنا غنى أن نفهم هذا الألم، أن نتخيّل ألم اختطاف رضيعة من صدر أمّها وانسلاخها عن جسد حملها وأنجبها، وما زال قيد الإلتحام.
الخاطف هو الوالد، وتبريره للخطف هو أن زوجته غير مؤهلة للأمومة. هكذا، يقرّر الزوج/ الأب/ الرجل مصير الطفلة والأم، هكذا يعاملهن كملكيّات له، يتحكّم بحياتهنّ كيفما شاء. فهو، بحكم أبوّته، مؤهّل لكلّ شيء. له الحق في التصرّف كما شاء.
هو يعلم جيداً أنه، وإن خالف القانون، لن يُحاسَب. هو يعلم جيداً أن الأولوية له، لمصالحه. هو يعلم جيدا أن امتيازاته كرجل فوق أي اعتبار.
قد نرى فيه وحشاً، قد نشكّك بإنسانيته أو بحبّه لأولاده، ولكنّ المسألة ليست مسألة حب أو إنسانية. هي مسألة سلطة.
فهو ليس وحيداً. الزوج الخاطف جندي في جيش من الرجال لا يريدون لحكمهم أن ينتهي. هو ليس وحيداً، حين يتحدّث على التلفزيون عن أمراض زوجته النفسية. فوراءه منظومة طبية وإعلامية وأخلاقية كرّست فكرة «المرا المهسترة» لكي تبرّر قمع النساء. هو ليس وحيداً، وراءه قانون وشرع ودين يؤكد له فوقيته، يعززها، يشرعها، يمأسسها. أما غنى، فليس لها إلّا التلفون وجو معلوف: عم يتقاووا علي وأنا ما إلي حدا! ما إلي حدا بالدني! تجارب النساء مع الحضانة التي يوثّقها الإعلام، كتجربة غنى، مؤلمة وقاسية، وتكشف لنا في حدّتها حالة النفاق التي تسمح لنا أن نعيش بتواطؤ مع قوى الأمر الواقع. فصرخة غنى، وقبلها أخريات، وبعدها أخريات، تأتي لتذكّرنا بعنف يسهل علينا تجاهله، وهو العنف العائلي والزوجي الممأسس ضد النساء. فالمسألة ليست مسألة عائلية مرتبطة بخلافات زوجية أو سوء تفاهم. فاختطاف الأطفال من أمهاتهن ليس تعبيراً عن رغبة الآباء بالحضانة بل عن مشيئتهم بالإنتقام من الأمهات. حضانة الآباء المفروضة بقوة القانون والقوى الأمنية هي فعل انتقام، لا عدالة. هي خطف قانوني تشرّعه المحاكم الدينية وتباركه المحاكم المدنية. فالأبوّة حق مضمون للرجل. لا أحد يسأله مثلاً إن كان مؤهّلاً لحضانة أطفاله. أما الأمومة، فهي حق قد ينتزع من المرأة في أي لحظة، نزولاً عند مشيئة الأب. فهي، وإن أنجبت وربّت واعتنت بالأطفال، لا حق يضمن لها حضانتهم.
هم منها، وليسوا لها.
هذا ما تكرّسه مؤسسة الزواج، وهي الإطار الشرعي للأبوة والأمومة. فبعيداً عن الأفكار الرومانسية عن الحب والشراكة وحرية الإختيار والمساواة بين الرجل والمرأة في الحياة الخاصة، الزواج هو مؤسسة اقتصادية تسودها علاقات سلطة. كما أنّ الأمومة ليست نداءً مقدّساً تلبّيه النساء. هي أيضاً مؤسسة سياسية، يفرض من خلالها الرجال سلطتهم على النساء باستملاك عملهنّ الإنجابي. فيصبح الطفل الذي تصنعه الأم ملكاً للأب، يحمل اسمه. ما إلك عندي بنت، هاي بنت آل حمزة، هذا ما قاله الزوج لغنى عندما طالبته برؤية ابنتها، بحسب تقريرٍ تلفزيوني.
اختطاف الأطفال من أمهاتهن ليس شذوذاً عن هذه القاعدة. هو القاعدة في وضوحها، ودليل مأسسة العلاقات البشرية، ومنها الزواج والأمومة، في خدمة الرجل ومصالحه بالدرجة الأولى. أما الغاية، فهي حتماً ليست حضانة الأطفال الفعلية. فالحضانة هي فعل: هي الحنان والحب والرعاية والاهتمام والإصغاء والصبر والتعليم والاعتناء. الغاية من سلخ طفلة عن أمها أو منع الأخيرة من رؤيتها أو حتّى معرفة مكان وجودها وجرجرتها في المخافر بحثاً عنها هي تأديب للزوجة أو الطليقة، لإرغامها على العودة إلى بيت الطاعة، أو حضّها عن الطلاق، أو إجبارها على الانصياع لأمر زوجها والخضوع له. أو مجرّد نكاية. الحضانة إذن هي قضية تضرب في عمق البنية الإجتماعية السائدة. في تعددها وتكرارها، تدل هذه المعارك على الحاجة السياسية والملحة للنساء لإستملاك أجسادنا وحياتنا وتحريرها من سلطة الآباء الدينية والمدنية. لا يمكن لنا كنساء أن نعتمد على الحب أو نفسية الزوج أو كرم أخلاقه أو شفقة القاضي أو تعاطف الرأي العام للحفاظ على أولادنا. ولا يمكننا أن نصمت عن ظلم نعيشه خوفاً من خسارة أولادنا. ولا يمكن لنا إنقاذ أطفالنا من دائرة العنف المنزلي بالسماح لهم أن يشهدوا، في بيتهم، في عائلتهم، على انتصار العنف كأسلوب في العلاقات البشرية، كأسلوب تنصاع له النساء.
في هذا السياق، تؤمّن المحاكم الروحية الغطاء الشرعي والقانوني للخطف العلني والمفضوح للأطفال من أمهاتهم. تفرّغ بذلك الحضانة من معناها الفعلي لتصبح مجرّد فعل انتقام، يثبت من خلاله الرجل حقه المطلق بتملّك أجساد وعواطف وخدمات النساء. وما لا تعطيه المرأة طوعاً، يؤخذ بالقوة.
وبقوّتها ستستعيده.