عالم الإبادة وحروبه
بات الكلام عن حرب نووية متداولاً في الأخبار وكأنّه خبر عادي. الصواريخ تتطاير ليلًا في سماء الشرق الأوسط الذي يقبع تحت الحروب والإبادات منذ أكثر من سنة. لم تعد حدود الدمار الممكن مضبوطة، في ما يشبه حرب دمار شامل شُنّت على المنطقة. الموضوع لم يعد خيالًا أو تمرينًا في توقّع الأسوأ. بات واقعًا غير ممسوك من قواعد الاشتباك الماضية، مهما كانت سيئة.
هي حروب من نوع جديد، توسيع لفكرة «الحرب على الإرهاب» لتطال شعوباً وأنظمة بأكملها. لكنّها حروب وجدت شروط إمكانياتها بالإبادة التي سبقتها، والتي مهّدت لهذا العنف المفرط. فالإبادة لم تكن حدثًا محصورًا بقطاع غزة. هي حوّلت العالم وقوانينه الدولية وحساسيته حيال القتل، ليصبح العنف المتزايد مطلوبًا لتبرير العنف الذي مضى. هذه الحروب باتت حتمية في «عالم الإبادة». ألا تقوم إسرائيل «بالعمل القذر» نيابة عن الغرب، كما صرّح المستشار الألماني؟
وأخيرا، أبصر النورَ هذا «الشرق الأوسط الجديد»
منذ عام 1990، والعالم يهددنا بـ«شرق أوسط جديد»، تغيّرت معالمه أكثر من مرّة لكنّ طابعه «الجديد» بقي ثابتاً. عادت الفكرة إلى الواجهة في عام 2003 مع احتلال العراق، لتتضح علاقة «الجديد» مع «العنف»، أي أنّ «الجديد» كان تبريرًا للعنف. فالحروب التي سبقت كانت محاطة بكلام، مفرط غالبًا، عن سلام واستقرار وازدهار وحقوق. كانت حروباً تضجّ بالوعود والأفكار، تحاول إلى حدّ ما استمالة جمهور ما إلى حربها.
لكنّ «الشرق الأوسط الجديد» الذي تصنعه الطائرات الإسرائيلية، هو شرق أوسط بدون كلام، خارج الكلام التحذيري لأفيخاي أدرعي وتحذيراته اليومية. هو شرق أوسط يُصنَع بالعنف المفرط الذي لا يحتاج إلا لنفسه كتبرير. هو شرق أوسط يبدأ بالإبادة ويمتدّ إلى حروب لن تنتهي، ولا يقبل إلا بـ«الاستسلام غير المشروط» ودمار الخصم الشامل. هذا «الشرق الأوسط الجديد» هو مشروع إخضاع معمّم، والإخضاع لا يحتاج إلى فاعل سياسي يستسلم أو يوقع اتفاقية وقف إطلاق نار، هو يحتاج إلى أجساد، مجرّد أجساد، تُقتل وتُهجّر وتُحذّر وتُبقى على حافة قيد الحياة.
حروبٌ على الإرهاب
منطق الإخضاع هو منطق «الحرب على الإرهاب»، هذا المكوّن التقني- العسكري- القانوني الذي فخّخ القانون الدولي ليفتح المجال أمام العنف المفرط. فمن خلال ابتكارات كـ«الاستعمال المزدوج» وصورة «الإرهابي» و«الحروب الاستباقية» و«الأضرار الجانبية» وغيرها من المفاهيم، تمّ تفخيخ الاتفاقات الدولية، لكي يصبح العنف ضد من اعتُبِر «جماعة إرهابية» غير محدود، أكان بقسوته أو زمنه أو هدفه.
تعمّم هذا المنطق على الشرق الأوسط بأكمله، لكي يصبح تدميره أو إخضاعه مبرّراً من وجهة نظر من يخوض هذه الحرب. فبات ممكنًا تقنياً وعسكرياً معاملة هذه المنطقة بأكملها كساحة إخضاع، تراقب بأدقّ تفاصيلها، تدار من خلال سماها، يُقتل فيها من يزعج، أو حتى من لم يزعج السلطات الجديدة. فهناك درس للقاطنين في هذه البقعة من الأرض أنّ حياتهم باتت بلا أي قيمة، حتى قيمة القانون الدولي المتدنية. إما الخضوع وإمّا الموت، حتى ولو كان الهدف تحت الأرض أو بين أفراد عائلته.
محورٌ ينهار وآخر بات خارج السياق
ربّما يبتهج البعض بانهيار محور على يد ماكينة القتل الإسرائيلية. فمن صواريخه إلى برنامجه النووي وصولًا إلى خطابه، بات محور الممانعة ركامًا، شبيهاً بالدمار الذي ألقاه على خصومه المحليين. فما من زعل على انهيار محور، ارتبط صعوده بالعنف في لبنان والعراق، وبإبادة الشعب السوري، هذه الإبادة التي دشّنت أيضًا هذا «الشرق الأوسط الجديد». لكن ما من محور مقابل ينتصر بالضرورة. فما واجه محور الممانعة لسنوات، أي ما سمي بـ«محور الاعتدال»، بات خارج السياق، هو وخطابه عن السلام والديمقراطية والازدهار والانتهاء من الحروب العبثية.
فـ«الشرق الأوسط الجديد» هو شرق أوسط الإخضاع والاستسلام، والقبول بأن هناك شعوباً بأكملها ستعيش تحت مراقبة الدرونز المستمرة والقصف الروتيني، لتقبل بحكم الصمت الصاعد، حكم أنظمة تسلّطية، بات لها من يقوم بـ«عملها القذر» على صعيد عدد من الدول، وأجهزة استخبارات تتولى إدارة «المجتمعات» التي باتت أقرب إلى «مخيّمات».
«المخيّمات» العربية
الاحتفاء بانهيار محور وصمود آخر ما زال ينتمي إلى عصر ما قبل التقنية. فنحن أمام عالم جديد ترسَم معالمه بالقصف والدمار والتهجير. عالم ينذر بتحويل المجتمعات في هذه المنطقة إلى ما يشبه «المخيّمات» أو «المحميات»، سجون كبيرة ممنوع عنها الكلام، تُدار حدودها وتحركاتها من فوق، من علو التفوق التقني والعسكري، وتعيش تحت تهديد الإبادة والدمار الشامل. بين «مخيّم» وآخر، ثمّة مدن تقنية، يسودها أيضًا صمت السياسة، مدن تحكم هذه «المخيّمات» عن بعد، للانتهاء من ضجيجها ومشاغبتها. ففي عالم الإبادة، هناك صوت واحد يعلو فوق صوت المعركة، هو طنين المسيّرات.