وأخيراً سقط.
كنت دائماً أحلم باليوم الذي سأسمع فيه خبر موت بشّار الأسد. كنت أتخيل نفسي بشعرٍ شائب، في أحد بلدان المنفى الباردة، أبكي سعيدةً بهذا الخبر. لم تكن هناك أيّ قيمة للحياة سوى انتظار موته.
لكن جاءني خبرٌ أسعد. خبر موت الأبد نفسه. تلقّيت خبر سقوط بشار الأسد صباحاً في بيروت، بشعرٍ ليس شائباً. حتى بأحلامي، لم يكن هذا السيناريو واقعياً. كان مسار حياتي ضيّقاً للغاية. كنت أحزن على أنّني لا أعرف شوارع الشام كما أعرف شوارع بيروت، وأنّني لا أذكر من دمشق سوى ما عرفته في صغري. كنت أحزن أنّني لن أزور قبر جدّي، ولن أتعرّف على أطفال عائلتي الجدد. كانت حياتي بضيق الزنزانة، لكنّها أصبحت اليوم أوسع من السماء نفسها.
في مستشفى المجتهد في دمشق، تبحثُ أمٌّ عن ابنها بين جثامين شهداء التعذيب. تصرخ بقهرٍ من دون أن تنزل لها دمعة. تخاطب جميع الجثامين: يا عيوني انتو. تقول يا عمري، ربّما تحسّراً على عمرٍ قضته بالحرمان، وربّما تنادي ابنها لعلّ جثمانه يلوّح لها. لا تستطيع التعرّف على أحد، من شدّة التعذيب والتفسّخ. تبدو وكأنّها خائفة من أن يمرّ أمامها جثمان ابنها من دون أن تتمكّن من التعرّف عليه. تقول: يا أمي منين بدنا نعرفن؟ تمشي إلى الخارج، بين الناس، مردّدةً الله لا يوفقك يا بشار. ربّما هذه المرّة الأولى التي يشهد فيها أحدٌ على هذا الدعاء.
في 8 كانون الثاني 2024، يوم ولادة سوريا التي نحبّها ونريدها، وُلد أطفالٌ لم يحكمهم الأسد، لا الأب ولا الابن. في هذا اليوم المجيد، ولدنا جميعنا من جديد. انتهى الخوف. تمنّيت لو قرأَت مي سكاف الخبر، لو أنّها تعرف اليوم أنَّ «ابن بشار الأسد لن يحكم ابنها». في هذا اليوم المجيد، أصبح الهواء نظيفاً.
لكنَّ سقوط بشار الأسد لم ينهِ الكابوس السوريّ.
في مقطعٍ آخر من المستشفى نفسه، يتوافد الأهالي، وهم يغطّون أنوفهم بملابسهم. يسأل الصحافيّ أمّاً عثرت على ابنها: كيف تعرّفتي عليه خالة؟، تردّ بأنّها عرفته من وشومه. علمت الأمّ عن تواجد جثامين في المستشفى، بعضٌ منهم من السجن الذي اختفى فيه ابنها. هناك عثرَت عليه: اجيت لقيته هون، كأنّه صرله مية سنة، مو كأنّه صرله شهر ونص. تروي بهدوء قصّة اعتقاله من منزل صديقه واقتياده إلى «فرع المنطقة»، وكيف أنّها لم تعثر عليه بين المعتقلين المحرّرين. لا تبكي إلّا عندما تدعو على النظام، مردّدةً الله لا يسامحكن يا هالنظام الكلب. هذه المرّة الأولى التي يسمع فيها أحدٌ هذا الدعاء غير الله.
كنّا نعيش جميعنا كسوريّين في بيروت في زنازين الأسد. لا نكتب، لا نتكلّم، لا نتخيل، لا نتجرّأ. كان شبح الوصاية حيّاً في حلقنا. كان خطر الترحيل كابوساً يمضغ أحشاءنا. كانت العنصريّة ذراعاً لنظام الأسد. خلال حملات العنف والتحريض، لا نخرج من بيوتنا التي ليست لنا أصلاً. كلّ يومٍ في السرفيس، كنت أتمنى لو أنّني خرساء كي لا يتعرّف السائق على لهجتي. كنت أتمنّى لو أنني بلا كنية، كي لا يسألني أحد: انت من وين.
داخل سوريا وخارجها، زرع فينا الأسد قهراً لن يقتلعه أيّ زمن. قهرٌ يشبه سراديب الاعتقال والتعذيب التي غيّبت مئات آلاف السوريّين منّا. أزال سقوطه عبئاً أثقل من جميع أصنامه، لكنّه لم يردّ لأهالي المغيّبين والمخفيّين أبنائهم. لا يزال مصير آلاف السوريّين مجهولاً، ولن نتمكّن من التعافي، أو من بناء سوريا لنا جميعاً، إن لم يكن ملفّ المخفيّين في صلب أولويّاتنا. كنّا نقول قبل سقوط الأسد، «بدنا المعتقلين»، ولا نزال نقولها اليوم. بدنا المعتقلين والمخفيّين والمغيّبين، بدنا نعرف وين راحوا.
على باب المستشفى، تبحث أمٌّ ثالثة عن ابنها. تقول على ضهره في غمّازتين. هكذا حوّل الأسد العلامات التي تذكرها الأمّهات، والتي حفظتها حبّاً بأولادها، علامات للوداع والرثاء. أمٌّ رابعة تبكي على ابنها بلا دموع. تسأل وين ولادنا راحوا؟ لم تعثر على ابنها الوحيد لا داخل السجون ولا خارجها. لم تجد إلّا عبارة واحدة: ما بسامحك يا بشار. بين الجثامين نفسها يدور شابٌ بيده هاتف. على الهاتف يظهر وجه شخصٍ آخر في اتّصال فيديو. يصوّر له الشاب الجثامين، لعلّه يتعرّف على من يبحث عنه بين الشهداء.
هذه هي المجزرة التي ارتكبها الأسد بحقّ المعتقلين وعائلاتهم. مجزرةٌ بحجم بلدٍ بأكمله، مجزرةٌ بدأت منذ خمسين عاماً، ولم تنتهِ. ليس عدلاً ولا انتصاراً أن يبحث أهالي المعتقلين عن أبنائهم بأيديهم وأعينهم بين الجثامين والمقابر الجماعية والوثائق المرميّة على الطرقات والصور المنشورة. ليس عدلاً أو انتصاراً أن نتحرّر نحن من الأسد، وأن يبقى معتقلونا في عدّاد المغيّبين.
بشار الأسد لم يرتكب كلّ هذه الفظائع لوحده. حتّى عشية سقوطه، أراد من حرّاس معتقلاته أن يعذّبوا ويقتلوا ويرموا جثامين شهدائنا حتّى نراهم، حتّى نختنق بقهرنا لآخر لحظة. إنَّ محاسبة رجال الأسد وملاحقة من أقفل أبواب الزنانين على أهلنا هي الخطوة الأولى والأهم نحو العدالة.