تحليل فاشيّة
طارق أبي سمرا

من «كاتدرائيّة» كورتيس يارفين إلى أوليغارشيّة أحمد ناجي 

عندما تُطرَد العشوائيّةُ من العالم

13 أيار 2025

حين نقارب الظواهر السياسيّة بمعزل عن الديناميّات الاجتماعيّة المعقّدة والنزاعات الناجمة عن المصالح المتناقضة، فإنّنا كثيراً ما ننساق إلى تفسيرات تبسيطيّةٍ أحاديّة البعد، قد تلامس في بعض وجوهها نظريّات المؤامرة. ذاك أنّ الظاهرة السياسيّة التي نبتغي فهمها تُختزَل آنذاك، مهما بلغت من تعقيد وتركيب، إلى مجرّد تعبير مباشر عن نيّة فرد واحد أو قلّة قليلة من الأفراد، كما لو أنّها منفصلة عن أيّ سياق تاريخي واجتماعي، وعن أيّ صراع بين أطراف أو فئات متنازعة.

بهذا المنظور يُقارب الكاتب والروائي أحمد ناجي انتخاب دونالد ترامب وسياساته في مقالة نُشِرت على موقع «ميغافون» بعنوان «راية التكنوصهيونية ترتفع فوق جثّة المستقبل، فما العمل؟». في هذه المقالة، يُسلِّط ناجي الضوء على شبكة تحيط بترامب وإدارته، تضمّ أثرياء من عالم التكنولوجيا الرقميّة ومنظّرين يمينيين متطرّفين، يجمعهم العداء للديمقراطيّة والسعي إلى تأسيس نظام عالمي جديد يتجاوز إطار الدول القوميّة. وهو ما يُنذر، بحسب الكاتب، بصعود «فاشيّة جديدة» تُهدّد مستقبل البشريّة برمّتها. 

أفكار هؤلاء الأشخاص مُقلقة بالفعل، وما يُفاقم هذا القلق هو قربهم من الرئيس الأميركي. غير أنّ ناجي يتخطّى في تحليله الوقائع والمعطيات، فيصل إلى ما يمكن تسميته بالخلاصات الأبوكاليبسيّة.


الملكيّة بوجه الكاتدرائيّة

يعرض ناجي أفكار بعض من هؤلاء الأثرياء، مثل الملياردير بيتر ثيل، أحد مؤسّسي شركة «باي بال» والمعروف بدعمه الكبير لترامب ونائبه جاي. دي. فانس، ورجل الأعمال بالاجي سرينيفاسان، مؤلِّف كتاب «الدولة الشبكيّة». يشترك الرجلان في نظرتهما إلى الديمقراطية بوصفها نظاماً يتعارض مع الحريّة، وفي اعتقادهما بضرورة استبدالها بنظام جديد يتجاوز الدولة القومية. وفي هذا السياق، يطرحان فكرة «الدولة الشبكيّة»، وهي كيان رقميّ لا يمتلك في بداياته سيادةً على أيّ رقعة جغرافية، لكنّه يؤسِّس لمجتمع يتمتّع بوعيٍ وطنيّ حقيقيّ ويتداول عملته الوطنيّة الرقميّة. وفي مرحلة لاحقة، تسعى هذه الدولة الشبكيّة إلى شراء أراضٍ في مناطق مختلفة من العالم، وتُعلن سيادتها عليها، فتنال اعتراف الدول الأخرى. أمّا نظام الحكم، فمماثلٌ لإدارة شركة خاصة يرأسها مدير تنفيذي، بينما لا يُعَدّ المواطنون سوى «مستخدمين»– على غرار مستخدمي «فيسبوك» مثلاً– لا رأي لهم في إدارة شؤون الدولة ولا تأثير في قراراتها.

إنّها أفكار مخيفة بلا شكّ، لا سيّما أنّ المروّجين لها هم أثرياء نافذون ومقرّبون من الإدارة الأميركيّة الحاليّة. لكن ثمّة من يحمل أفكاراً أشدّ إثارة للفزع، يقدّم لنا ناجي لمحة عنها: المُدوِّن والكاتب كورتيس يارفين، المُقرّب من كُثر من أثرياء عالم التكنولوجيا الرقميّة، والذي يستلهم جاي. دي. فانس بعضاً من أفكاره.

يرى كورتيس يارفين أنّ الديمقراطيّة الليبراليّة قد بلغت طوراً متقدّماً من الانحطاط بحيث لم تعد ديمقراطيّةً إلّا في الشكل، إذ تحوَّلت في الواقع إلى نظام أوليغارشيّ مُقنّع. يُطلق يارفين على الطبقة الأوليغارشيّة، أو النخبة الحاكمة، تسمية «الكاتدرائيّة»، ويشمل في هذا المصطلح وسائل الإعلام الكبرى (مثل «نيويورك تايمز») والجامعات المرموقة (مثل «هارفارد») والجهاز القضائي وبيروقراطيّة الدولة. ووفقاً لتصوِّره، فإنّ «الكاتدرائيّة» هي التي تحكم الولايات المتّحدة فعليّاً، إذ تسيطر على مفاصل الدولة، وتصنع الرأي العام السائد من خلال تبشيرها بالقيم الليبراليّة والتقدميّة. أمّا مَن ينتخبه الشعب الأميركي رئيساً للجمهورية، فلا حول له ولا قوة، ذاك أنّه لا يمتلك أيّ سلطة فعلية، وهو في ذلك يُشبه إلى حدٍّ بعيد ملكة بريطانيا.

الحلّ، بحسب يارفين، يكمن في النظام الملكي. غير أنّه لا يشترط على هذا النظام المُنقِذ أن يُسمّي نفسه «ملكيّاً»، إذ يكفي أن يُنتخَب رئيسٌ قويّ وسلطويّ يبادر، في الأشهر الأولى من تسلّمه الحكم، إلى تفكيك مؤسّسات الديمقراطيّة الليبراليّة، وصرف أكبر عدد ممكن من الموظّفين الحكوميّين، وتقويض وسائل الإعلام والجامعات تمهيداً للقضاء عليها. عندئذٍ، يحكم البلاد كما لو كان مديراً تنفيذيّاً يُدير شركةً خاصة.


سياسة عشوائيّة أو مؤامرة مدروسة

التقاطع بين أفكار بيتر ثيل وبالاجي سرينيفاسان وكورتيس يارفين من جهة، وبعض سياسات ترامب وآرائه من جهة ثانية، جليُّ بل صارخ. فترامب سلطويّ، يزدري القيم الليبراليّة، ويكنّ عداءً شديداً لوسائل الإعلام الكبرى. يسعى إلى تقويض الجامعات وينتقد القضاء باستمرار ويعمل على صرف أكبر عدد ممكن من الموظّفين الحكوميّين. وهو يتصرّف كرجل أعمال مهووس بعقد الصفقات، لا كرجل دولة. وهذا كلّه يصب في اتّجاه تدمير المؤسّسات الديمقراطية، أو في الحدّ الأدنى تقويضها. فضلاً عن أنّ بعض سياساته توحي بأنّه يسعى إلى تفكيك النظام العالمي الراسخ منذ نهاية الحرب العالميّة الثانيّة، أو أقلّه إخراج الولايات المتحدة منه.

غير أنّ أحمد ناجي لا يكتفي بالإشارة إلى هذه التقاطعات، بل يذهب أبعد من ذلك بكثير، إذ يقول: 

من الخطأ وصف ترامب وسياساته بالجنونيّة أو الناتجة عن جهل سياسي. ترامب مجرّد صوت وممثّل لهذا العالم الجديد. وخلف كل قرار ثمّة شبكات من النفوذ والمصالح وتريليونات الدولارات وشبكات من أثرى أثرياء العالم من ضمنها أثرياء وملوك الخليج ورواد الأعمال في وادي السيليكون. 

بمعنى آخر، ثمّة مخطّط يُحرِّك سياسات ترامب، وما يبدو لنا عشوائيّاً أو حتّى جنونيّاً، إنمّا يصبّ في اتّجاه واحد.

هذا الادّعاء لا يمكن دحضه، فإثبات عدم وجود مثل هذا المخطّط أمرٌ مستحيل. لكن يمكن إظهار أنّه غير مرجّح إلى حدّ بعيد، وذلك بالاستناد إلى نقاط أربع:

  • من النادر أن يُحرِّك مُخطّطٌ واحد ومتماسك سياسات حاكمٍ أو رجل دولة أو حكومة. فالحُكْم هو إلى حدّ بعيد تفاعل مع ظروف غير متوقّعة، إن لم تكن عشوائيّة.

  • قرارات ترامب وسياساته تبدو عشوائيّة ومزاجيّة ومتقلّبة ليس للمراقب الخارجي وحسب، بل أيضاً للعديد ممّن عملوا في إدارته خلال ولايته الأولى.

  • بعض تصريحات ترامب وقراراته تهدف فقط إلى استمالة هذا الشطر أو ذاك من جمهوره (اليمينيّون المتطرّفون، المحافظون، المسيحيون الإنجيليّون...) ولا تُعبِّر، تاليّاً، عن رؤيّة سياسيّة واحدة ومُتماسكة.

  • مَن يجد ترامب نفسَه مضطرّاً لإرضائهم بين حين وآخر (الطبقات الوسطى، الأثرياء، سكّان الأرياف من البيض، الشركات الكبرى، الحزب الجمهوري...) لا يشكّلون كتلة واحدة متراصّة، بل هم مجموعات وفئات ذات مصالح متناقضة.

سياق أوسع لصعود الفاشيّات

لا شكّ في أنّ أفكار الأثرياء والمنظّرين الذين يتحدّث عنهم أحمد ناجي تنطوي على قدر كبير من الفاشيّة. ولا شكّ أيضاً في أنّ الكثير من سياسات ترامب ومواقفه– التي يتقاطع بعضها مع تلك الأفكار– يمكن وصفها بالفاشيّة. لكن هل يمكن فهم ظاهرة ترامب السياسية والاجتماعية بوصفها تجلّياً لتلك الأفكار، كما يميل ناجي إلى الاعتقاد؟ بكلمات أخرى، هل ترامب مجرّد تعبير عن «فاشيّة جديدة» تسعى إلى تغيير النظام العالمي وتفكيك الدول القوميّة، فاشيّة تروِّج لها قلّة نافذة من الأثرياء؟

الحقيقة أنّ ظاهرة ترامب ليست فريدة من نوعها، فهي تنضوي في سياق صعود الشعبويّات ذات الطابع الفاشي في الغرب كلّه (وفي خارجه أيضاً)، صعودٍ قد يجوز اعتبار أولى علاماته وصول سيلفيو برلسكوني إلى رئاسة الحكومة الإيطاليّة عام 1994. مذّاك وهذه النزعة الشعبويّة تنمو باضطراد، وقد أوصلت إلى الحكم عدداً من أشباه ترامب. والنزعة هذه تتجذّر في استياء شعبيّ عارم من الأحزاب التقليديّة، خصوصاً الوسطيّة منها، وفي ضمور الثقة في الحكومات ومؤسّسات الدولة والإعلام، وفي سخط على النخب الاقتصاديّة والثقافيّة، وفي كراهية للمهاجرين والأقليات الإثنيّة أو العرقيّة. 

ليست ظاهرة ترامب تجلّياً لنوايا حفنة من الأفراد ومخطّطاتهم، بل هي جزء من هذا السياق المُتّسِع جغرافيّاً وزمنيّاً. إنّها تعبّر عن ديناميّات اجتماعية وسياسيّة معقّدة لا تخصّ الولايات المتحدّة وحدها، وهي ديناميّات تتباين الآراء حول تفسيرها. ففي حين يعزوها البعض إلى توحّش السياسات النيوليبراليّة وتدميرها لدولة الرعاية الاجتماعيّة، يرى البعض الآخر أنّها نتاج تحوّل جذري طرأ على الأحزاب اليساريّة التي باتت تنحو إلى اليمين في المسائل الاقتصاديّة...


نظريّة «الكاتدرائيّة» المعاكسة

لكنّ مَن يعتبرهم أحمد ناجي وراء انتخاب ترامب وسياساته– أي أولئك الأثرياء والمنظّرين الساعين إلى تغيير النظام العالمي– لا يراهم مجرّد حفنة من الأفراد. فمن دون أيّ دليل، يروح يتحدّث عن أوليغارشيّة أميركية، لا بل عن نخبة عالميّة جديدة وشبكات من أثرى أثرياء العالم من ضمنها أثرياء وملوك الخليج ورواد الأعمال في وادي السيليكون، تعمل جميعها على إرساء نظام عالمي جديد عبر تفكيك الدول القوميّة. يقول ناجي: هذه الأحلام يتشارك فيها أثرى أثرياء العالم وحكامه بغض النظر عن لون بشرتهم أو جنسيتهم أو الإله الذي يصلّون له. لكن كيف انتقلنا من بيتر ثيل وكورتيس يارفين وجيف بيزوس وبضعة أسماء أخرى، إلى الحديث عن الأوليغارشية الاقتصادية العالمية، بل وعن حكّام العالم وملوك الخليج أيضاً؟ لا جواب في المقالة. 

لا بدّ من لفت النظر هنا إلى أنّه بالرغم من أنّ المنتمين إلى الأوليغارشيّة الاقتصادية يشكّلون طبقةً اجتماعيّة (أو الأحرى الشطر الأعلى من الطبقة البرجوازية) ولهم مصالح مشتركة، فإنّهم ليسوا كتلة متراصّة، إذ قد تتناقض مصالحهم في كثير من الأحيان. ولعلّ أبرز دليل على ذلك، في ما يخص الولايات المتحدة، أنّ كُثراً من المليارديرات دعموا كامالا هاريس في الانتخابات الرئاسيّة الأخيرة، بل إنّ عدد المليارديرات الذين دعموها، بحسب مجلة «فوربس»، يفوق عدد الذين دعموا ترامب.

إلّا أنّ أحمد ناجي يجعل من أثرى أثرياء العالم كتلّةً واحدة متماسكة، فيعتبر تالياً أنّهم يتشاركون في جميع مصالحهم الاقتصادية ورؤاهم السياسيّة بلا استثناء. هكذا نصبح أمام ما يشبه المؤامرة الكونيّة الرامية إلى خلق عالم جديد مؤلَّف من «دول شبكيّة» تُحكَم بطريقة سلطويّة فاشيّة، مواطنوها ليسوا سوى مستخدِمين. 

هكذا نصبح أيضاً أمام ما يُشبه نظريّة «الكاتدرائيّة» التي طرحها كورتيس يارفين. ففي حين يعتبر الأخير أنّ النظام الأميركي لا يمتّ إلى الديمقراطيّة بصلة، وأنّ مَن يحكم البلاد هي أوليغارشيّة مؤلَّفة من وسائل الإعلام والجامعات والقضاء وبيروقراطيّة الدولة، فيما كلّ ما عدا ذلك مجرّد واجهة، يرى ناجي أنّ السياسة العالميّة لا تتّسم بأيّ عشوائيّة ولا تتأثّر بتاتاً بأيّ تناقضات في المصالح (سواء كانت مصالح الحكّام أو الأحزاب أو المجموعات أو الطبقات أو الدول)، بل هي كخطّ مستقيم ترسمه الأوليغارشيّة العالميّة وحدها.

لكن من حسن حظّنا أنّ العالم الذي نعيش فيه أكثر تعقيداً من هذه التصوّرات، بل إنّ تعقيده، في أحيان كثيرة، يفوق الخيال. فالعشوائيّة والمصادفات، وحتّى الفوضى، مُتغلغلةٌ في جميع وجوه عيشنا، من أصغرها إلى أكبرها: من حيواتنا اليوميّة إلى مجتمعاتنا وسياسات دولنا، وصولاً إلى السياسة العالميّة. لذلك فإنّ مَن يحاول فهم العالم بمعزل عن عشوائيّته ينتهي غالباً إلى تصوّرات اختزاليّة، مغلقة وحديديّة، تُفسِّر كلّ شيء وأيّ شيء.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
إدارة ترامب تمنع هارفرد من استقبال الطلاب الأجانب
إسرائيل تكثف غاراتها على جنوب لبنان
نقد

في البحث عن دمشق نزار قباني

محمد علي الأتاسي
إسرائيل تهجّر انتخابات القرى الحدودية 
22-05-2025
تقرير
إسرائيل تهجّر انتخابات القرى الحدودية 
بلديات الجنوب: معارك تخرق جدران التزكية
22-05-2025
تقرير
بلديات الجنوب: معارك تخرق جدران التزكية
حدث اليوم - الخميس 22 أيار 2025
22-05-2025
أخبار
حدث اليوم - الخميس 22 أيار 2025