خطاب ناقد لنفسه
يريد البعض أن نردّد نقدنا لحزب الله في هذه اللحظة. فليَكُنْ:
حزب الله طرف مسلّح، شارك بإسم «المقاومة» في قمع أي تعبير لإرادة شعبية، سواء في لبنان أو سوريا، قمع كان دموياً في معظم الأحيان. يشكّل حزب الله عصب النظام السياسي الحالي، وبالتالي راعيه الذي كان السبب المباشر لقمع أي محاولة تغيير. بمجرّد وجوده كطرف مسلّح، أدخل حزب الله البلاد في سياسات المحاور ليرهن مصير لبنان لحسابات إقليمية. من مجموعة إسلامية قضت على اليسار، بات حزب الله اليوم مركّباً إجتماعياً، ينتعش من تجارة المخدرات والتهريب، والثابت في تحوّلاته استعمال العنف.
لنذهب أبعد من ذلك.
ما يجري اليوم يشير بوضوح لحدود سياسة الردع التي برّر حزب الله من خلالها سيطرته على البلاد. فبات واضحًا أن لا قدرة على ردع العدوان الإسرائيلي، إلّا إذا أخذ هذا الردع شكل الحرب الشاملة، والتي لا قدرة للبلاد على تحمّلها. فما يجري، رغم عنتريات بعض كتّاب الممانعة، يؤكّد حدود هذه «السياسة الدفاعية»، ليجد حزب الله نفسه في أزمة عبّرت عنها الإطلالات القليلة لأمينه العام.
سقوط الخطاب الموازن
إذا كانت الحرب الحالية قد أكّدت حدود نظرية الممانعة، فهي تؤكّد أيضًا انتهاء صلاحية الخطاب المضادّ لحزب الله.
قام الاعتراض على سياسة حزب الله، منذ عام 2005، على فرضية أنّ أمن لبنان وسيادته يمكن تأمينهما من خلال ترسانة قرارات دولية، من بينها الـ1701، وحصانة المجتمع الدولي. فتزامن صعود مطلب تسليم السلاح مع تطمينات بأن الردع، إن كان هناك ردع، يمكن تحصيله من دعم الدول الغربية لسيادة لبنان وقرارات الأمم المتحدة، والتي لن تسمح بأيّ تمادٍ إسرائيلي بعد التسكير المفترض للجبهة. فعلى مدى أكثر من عشرين عامًا، كانت المواجهة بين خيار القرارات الدولية وخيار السلاح، مواجهة بقيت من دون حلّ.
من الصعب اليوم، وخاصة بعد تحوّل إسرائيل إلى ما يشبه دولة مارقة لا يردعها أي قرار دولي عن الاستمرار في إبادتها، إقناع أي عاقل بأنّ الاتكال على القرارات الدولية أو دعم المجتمع الدولي ما زال خيارًا واقعيًا. لا يعني ذلك أنّ السلاح بات الخيار الوحيد، لكنّه يعني أنّ الإبادة قضَت على هذه الثنائية التي شكّلت محور السياسة الداخلية لأكثر من عقدين من الزمن.
اعتبار أنّه من الممكن بناء سياسة خارجية على تلك القرارات فيها من الوهم ما يوازي وهم الممانعة وملاحم الانتصار عندها.
ثنائية السلام والحرب
يراد تصوير هذه المواجهة وكأنها اختلاف، إن لم يكن تناقضًا، بين «ثقافة سلام» و«ثقافة حرب»، والأولى تتمثل اليوم باتفاقيّات السلام والتطبيع الخليجي- الإسرائيلي. في زمن ما قبل الإبادة، كانت تلك الاتفاقيات تتقدّم من دون أي اعتراض يذكر، مبشِّرةً بشرق أوسط جديد، ممسوك من شبكات تعاون أمني واقتصادي. كان من المفترض للتطبيع أن يصبح سلامًا لولا الإبادة التي عكّرت أجواء هذا التطبيع الما بعد سياسي.
لكنّ هذا التعكير لم يُضعِف الحملة الأيديولوجية لهذا السلام المفترض. فبات هناك من يصوّر هذا السلام وكأنّه «خيار» على الشعوب أخذه، بين من يريد السلام والذكاء الاصطناعي والفعالية الإدارية من جهة، ومن يريد الحرب والمجاعة والموت، من جهة أخرى. لا داعي لمناقشة هذه الثنائية التي تتجاهل التاريخ والسياسة والمنطق، لأنّ دورها الوحيد هو الإيحاء بأن هناك قرارًا وخياراً أصلًا.
أهل غزّة لم يُحسنوا اختيارهم، فانظُروا ما حلّ بهم. إذاً، اختاروا محوركم «صح»، يا أهل المنطقة.
سيادة اللا-خَيار
لوهمٍ كهذا صدىً في لبنان، حيث تصوير المسألة وكأنّها خيار يشفي بعض الجروح النرجسية للثقافة السياسية عندنا. فلبعض النخب اللبنانية التي لم تهضم بعد صعود الخليج، كان من الممكن أن نكون مثل الخليج، أي أن نكون مكانه، لولا لم ننحَز لخيارات خاطئة، سواء كانت خيارات الاقتتال الداخلي أو الحروب الإقليمية. فالمطلوب رفض الحرب والانكباب على العمل والحياة، وهذا ما قد يحوّلنا إلى خليج جديد، حيث السياسة مستحيلة من أجل الفعالية الإدارية.
لذلك نرفع اللافتات الرافضة للحرب في ما يشبه طقوساً دينية غريبة تصلّي لإله غير موجود.
نريد أن نوهِم أنفسنا بأن هناك خياراً، بأن هناك ما هو مطلوب منّا. فمشكلة «السياديّين» مع حزب الله أنّه مُرتهَن للخارج، يقوّض سيادتنا لمصلحة سيادة أخرى، تقع خارج حدودنا. لكن لا وجود لقرارٍ أصلًا في النظام اللبناني، المرتهن لتوازنات سياسية واقتصادية خارجة عن سيطرته والمنقسم داخليًا.
السيادة اللبنانية ليست تعبيرًا عن خيار مستقلّ. هي تعبير عن لا-خَيار، عن استحالة اتخاذ قرار، ولا عيب في هذا «الضعف» إلّا بالنسبة لفاعلي الممانعة والسيادة.
هل الإبادة مجرّد معركة؟
يؤكّد البعض على أوليّة النقد، حتى في حالات الحرب. وفي هذا التأكيد شيء من المشاكسة مع شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» الذي استُعمِل على مدار التاريخ لإسكات الاعتراض الداخلي باسم معارك وهمية مع عدوّ متخيّل في معظم الأحيان. وإذا كان هذا النفور من محاولات تطويع النقد مشروعًا، يبقى السؤال البديهي: هل الإبادة مجرّد معركة؟
المشكلة مع النقد الحالي أنّه بات يتجاهل الواقع، أي واقع الإبادة. وهنا، لا نتكلّم عن «واقع أخلاقي»، بمحاولة للعودة لسجالات صيف الـ2006، بل عن تحوّل واقع مفهومي. فالإبادة تشكّل تحوّلًا في المفاهيم السياسية التي هيمنت على فكرنا منذ عقود، من مشاريع السلام وفرضياتها، إلى موقع الغرب كنموذج سياسي، مرورًا بأشكال المستقبل المطروح على المنطقة، وغيرها من الأمور.
مسؤولية النقد، إن كان هناك من مسؤولية، هي في محاولة فهم هذا التحوّل، بدل المسارعة للتأكيد بأن لا شيء تغيّر منذ 7 أكتوبر، أو منذ 2011 أو 2005… أو 1967. في هذا التأكيد على الثابت- هذا «اللا-مكان» و«اللا-زمان»- يتحوّل النقد إلى ملحمة بين «ثقافة عربية» و«غرب متخيّل»، تتغيّر أشكالها ولكنّ جوهرها يبقى ثابتاً.
«لا واقع يعلو فوق صوت هذه الملحمة».
الثقافة كأفكار والثقافة كتربية
هناك صدىً بين مَن يطالب الشعوب بأن نختار بين محوري السلام والحرب، في المجال السياسي، ومن يطالب بأن نختار بين هزيمة بنّاءة ومقاومة مدمّرة، في المجال الثقافي. فالثقافة، بالنسبة لمن يطرح خياراً كهذا، ليست مجالاً لتصارع الأفكار أو تصادمها مع واقع متحوّل. هي أقرب إلى معناها كتربية أو تثقيف أو تدريب على الحضارة. فيصبح دور الناقد، في هذا السياق، أشبه بدور المربّي الذي يذكّر مجتمعه بأنّه ما زال قاصراً ولم يرتقِ إلى المستوى الذي يخوّله الاعتراض على وضعه أو، وهذا قد يكون الكفر الأكبر، مساءلة النموذج، أي هذا «الغرب المتخيّل».
فحتى لو أدّت الإبادة إلى سجالات في الغرب، تراوحت أشكالها بين تظاهرات مليونية وتشكيك بمؤسساته السياسية والقانونية والإعلامية وإعادات للنظر برواياته الأخلاقية، فعلينا، نحن من يقع خارج هذا الغرب، ألّا نساجل، بل أن تمعّن وحسب بهذا «الغرب المتخيّل»، ريثما نتعلّم. المطلوب، وهذا حدود الممكن، هو الجلوس مع «الهزيمة» والتمعّن بها، ريثما نتعلم. نتعلّم ماذا؟ هذا غير واضح، فطريق الحضارة طويل.