«فترة وبتعدّي»
هذا ما كانت تقوله فاطمة حسونة، المصورة الصحفية التي قتلتها إسرائيل في غزة هي وعشرة من أفراد عائلتها في صاروخ استهدف شقتها، للمخرجة الإيرانية سبيده فارسي، مخرجة فيلم «ضع روحك على يدك وإمشِ» الذي يوثّق حياة فاطمة تحت الإبادة. قتلتها إسرائيل بعد يوم واحد على إعلان اختيار الفيلم للعرض في مهرجان «كان». قتلتها عقاباً لها على اختيار الفيلم وانتقاماً منها ومن ضحكتها التي أضاءت الشاشة وبقيت حاضرة بالرغم من كل شيء. قتْلها هو إعلان بأن لا حماية لأي فلسطيني، وبأن لا مهرجانات عالمية ولا جوائز ولا أفلام ولا تظاهرات ولا مذكرات توقيف ولا تقارير منظمات حقوقية وطبية تعلو فوق السلطة المطلقة للحكومة الإسرائيلية.
الليلة، قتلنا ما يقارب المئة شخص في غزة، ولا أحد يبالي، لأن الكل أصبح معتاداً على أن مئة فلسطيني قد يقتلون في ليلة واحدة خلال الحرب، ولا أحد يبالي، يقول عضو في الكنيست. نحن ندمّر كل ما هو باقٍ في غزة. العالم لا يوقفنا، يصرّح وزير المالية الإسرائيلي.
هناك مئات الآلاف من المبالين والمؤمنين بقيم العدالة وبالوجه المضيء للإنسانية الذين يتظاهرون من دون ملل أو يأس في كل أنحاء العالم منذ بداية الإبادة، وهم في ازدياد، لم يعتادوا على مقتلة الفلسطينيين العلنية ولن يقبلوا أن يعيشوا في عالم يُصبح القتل فيه عادة والإبادة مشرّعة وتصريحات كهذه متاحة. وهم في كل مكان، على الطرقات وفي الجامعات والمدرجات والبرلمانات والقاعات وفي عرض البحر. ما لا يبالون به هو التهديدات التي تطالهم وتخويف الحكومات والإدارات المتواطئة مع الإبادة لهم والعنف الذي يتلقّونه لمجرد تظاهرهم أو اعتراضهم.
في كل مرّة كنت أُريها صوراً لتظاهرات داعمة لفلسطين ورافضة للمجازر في غزة، كانت تتفاجأ من أن الناس معنيون بالفلسطينيين ويفكرون بهم. ففكرة أنه تمّ اختيار الفيلم لكي يُعرض في «كان» أفرحها كثيراً، تُخبر المخرجة عن فاطمة.
«لستم وحدكم، لن يُترك أحد في الخلف»
هي واحدة من الجمل التي تنتهي بها جلسات التأمل الموجّه التي أمارسها؛ وقعها يكون مؤثراً ودافئاً، لكنه لا يدوم. تأتي بعدها المشاهد والوجوه والإستنجادات والشهادات القادمة من غزة. أتذكر جملة محمود درويش «كم كنت وحدك». هكذا، ومنذ بداية الإبادة، وفي السعي لمتابعة الحياة اليومية والتزاماتها، اعتدت على تبدّل المشاعر وتوديع الأمل من ثمّ استقباله من جديد وتضارب الأفكار وتقلّب المزاج من حالة إلى أخرى معاكسة تماما. مجرد أن أبدأ بالجولة على الأخبار وبالسكرولينغ، حتى يبدأ القلب بالترنّح. كأنه ينطّ من مكان الى آخر، يرتفع عن الأرض ثم يتهاوى.
صورة لأولاد ينظرون إلى طائرة في السماء برعب وهم واقفون حاملين صحوناً فارغة ينتظرون فتات طعام. تعليق لنعمة حسن: 30 غارة جوية، كنت أراقب جهنم تسقط نارها من السماء، من شقّ الخيمة الممزق. صورة لابتسامة سيلا، الطفلة التي ولدت في خيمة في غزة في زمن الإبادة. تسجيل نادر لأم كلثوم ورياض السنباطي يغنيان معا «عوّدت عيني». 14 ألف طفل قد يموتون في غزة خلال الـ 48 ساعة المقبلة إذا لم يُسمح لعدد كافٍ من المساعدات أن تدخل إلى القطاع. المقادير لتحضير سلطة. «عُشبة سحرية» تقي من عوارض ما قبل المينوبوز. إزالة العقوبات عن سوريا. صورة لترامب في الزيّ البابوي. مشهد كلب يحضن طفلة. كلب آخر درّبه الجنود الإسرائيليون للهجوم على صبي. غارة إسرائيلية استهدفت سيارة على طريق الجنوب. من بين 5 شاحنات دخلت قطاع غزة، كانت اثنتان محمّلتين بالأكفان تبرّعت بهما دول عربية عبر الأمم المتحدة. أمير قطر يهدي ترامب طائرة بـ400 مليون دولار وجدل واسع حول التفاصيل...
يعود المشهد الأول من فيلم whatever works لوودي ألن الى البال، أتذكر تصريح ألن التافه خلال الحرب على غزة في العام 2014 وصمته اليوم، وما قاله إيلان بابي المؤرخ الإسرائيلي عن المثقفين والأكاديميين والباحثين الذين ما زالوا يدعمون إسرائيل، متسائلا كيف أن أشخاصاً يتمتعون بثقافة ومعرفة ويقدّمون أفكاراً خلّاقة ممكن التعلم منها في المواضيع التي يتناولونها، يتحولون الى أغبياء عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، مردّدين فقط السيناريو الإسرائيلي من دون أي نقد، ومنحدرين إلى مستويات متدنية لإرضاء دولة ترتكب إبادة يومية. أعود إلى الممثل الرئيسي في الفيلم، الذي يخبر كيف أقدم على الإنتحار مرّة من دون نجاح، لأنه لم يعد يتحمّل أن يقرأ الجريدة وينذهل بالأخبار المرعبة، ومن ثم يقلب الصفحة وينهي صحن البيض الذي أمامه.
كيف للحياة «العادية» أن تستمر في ظل الإبادة، كيف يمكن للشخص أن لا يغرق في الإكتئاب وانعكاساته واليأس والشلل وأن لا يصيبه الخدر واللامبالاة والإعتياد على مشاهد الرعب. كيف يمكن إيجاد توازن ما في عالم انقلبت فيه المعايير رأساً على عقب.
تملأ الشاشة إبتسامة سيلا من جديد. وهي ممدّدة على ظهرها في خيمتها في أشهر حياتها الأولى، تبتسم. نائمة على بطنها رافعة رأسها الصغير الجميل، تبتسم. التهبت عينها بسبب حرارة الخيمة والأوبئة المنتشرة حولها، بقيت تبتسم. تعلّمت الجلوس وهي مبتسمة. بدأت بتحريك يديها، ومن ثم المشي، والآن الركض وهي مبتسمة. قالت أولى كلماتها وهي مبتسمة. تمشي بين الركام فتحييها بابتسامتها.
ابتسامتها هذه هي كالهدنة، كاللحظة الهاربة من الزمان والمكان، كالحب الصافي المفقود.
تعود جملة فرانشيسكا ألبانيزي، المقرّرة الأممية: الناس العاديون، تعتقدون بأنكم لا تحدثون أي فرق من خلال رفضكم التواطؤ مع الإبادة والاحتلال والفصل العنصري، أنتم تُحدثون فرقاً، رجاء استمرّوا.
هي «فترة وبتعدّي».