هذه الحادثة التي تراها الآن بوضوحٍ وهي تجري أمام عينيكَ إنّما أقول لكَ إنّها لا تحصل. وتلك الحادثة الأخرى التي رأيتَها البارحة بوضوحٍ وهي تجري أمام عينيكَ فحُفِرت في ذاكرتك، إنّما أقول لكَ أيضاً إنّها لم تحصل. أعلَمُ أنّك ستصدِّق ما أقوله، ليس لأنّني سأرغمُك على ذلك– فأنت تعلَمُ أنّ الإكراه ليس من شيمي– بل لأنّ فمي، كما بتَّ تعلمُ، لا ينطق بغير الحقيقة. أمّا عيناك، كما بتَّ تعلمُ أيضاً، فإنّهما في ضلال منذ الأزل، فلا تُبصِران عموماً غير أطيافٍ يُخيَّلُ إليك أنّها حقيقيّةٌ، لكنّها– كما بتَّ تعلمُ منذ أن نطق فمي بالحقيقة (وهو لا ينطق بغير ذلك)– تفتقر إلى أيّ سندٍ في الواقع ولذلك فإنّها مجرّد عدم. عليك إذاً تكذيب عينَيك كلّما طلبْتُ منك ذلك– وأنا لن أفعل سوى الطلب، فأنت تعلمُ أنّ الإكراه ليس من شيمي. ولأكن صريحاً معك، وأنت تعلم أنّ الصراحة إنمّا هي من شيمي: سوف أطلب منك تكذيب عينيك في كلّ مرّة تُبصران فيها أيَّ شيء.
وبما أنّنا فتحنا باب المُصارحة، فسأُصارحك بشيءٍ آخَر أيضاً– شيءٍ بالغ الأهميّة، سيفسِّر لك سبب ضلال عينيك. فأنت تعلم أنّ بَشَرَ الأزمنةِ الغابرةِ كانوا أشبه بالحيوانات. كانوا برابرةً ووحوشاً ضارية، لا يفهمون غير لغة القوّة ولا يكترثون بغير مصالحهم، لا بل أنّ وحشيّتهم وبربريّتهم بلغتا حدّ المجاهرة بذلك، فكانوا يشنّون الحروب ويرتكبون المجازر إحقاقاً لمصالحهم وإعلاءً لمجدهم، وبلا أدنى محاولة لتمويه ذلك. وكانت قلوبهم لا تعرف الرحمة، فكانوا يقولون للضحيّة قبل أن تموت: هذه حال الدنيا، فلا تَلُومِي إلّا نفسك وضعفك. أو ربما تستطيعين، إذا شئت، أن تلومي الله أو القدر.
ثمّ ذات يومٍ انقشعت الظلمات عن كوكب الأرض. ولأوّل مرّة في التاريخ، رأت النورَ طائفةٌ من البشر، فأدركَتْ توّاً أنّ جميع حروبها كانت جرائمَ لا تُغتَفَر، فأحسّت بوخزة في الضمير وقرّرت أنّها، بدءاً من اليوم، لن تخوضَ أيّ حربٍ إلا لسببين لا ثالث لهما: الدفاعُ المشروع عن النفس، أو نشرُ الخيرِ والنور. هكذا أصبحت جميع حروب هذه الطائفة حروباً لا ريب في عدلها.
هذه طائفتي. أمّا طائفتك أنت، فإنّ أفرادها لم يتكيَّفوا بعدُ مع النور الذي بدأ يشعُّ ساطعاً منذ انقشاع الظلمات. لعلّ مردَّ ذلك عطبٌ ما في عيونكم. لعلّها تحتاج إلى وقت أطول حتّى تتكيّف. أعلَمُ أنّكم أحرزتم بعض التقدّم، فصارت عيونكم تستطيع رؤيةَ بضعةِ خيوطٍ رفيعةٍ من الضوء، لكنّني أعلمُ أيضاً أنّ ما ترونه أمامكم لا تزال تغشاه ظلالٌ كثيرةٌ وكثيفةٌ، وتخالطه أوهامٌ لا حصر لها، فيُخيَّل إليكم، بالتالي، أنّ الأمور بقيت على سابق عهدها، وأنّ طائفتِي لا تزال تشنّ حروباً لأسباب غير السببين اللذين أطلعتُك عليهما.
لذلك كلّما رأيتَنا نرتكب مجزرةً قُلْ لنفسك إنّ عيناك لا يمكن الوثوق بهما. فما تراه وتظنُّه مجزرةً (أو إبادةً، لا فرق) إنمّا هو واحدٌ من اثنين: إما حرب عادلة للدفاع عن النفس أو لنشر الخير والنور، وإمّا محض خيال، أيْ أنّ الحادثة برمّتها لم تحصل قطّ. والأرجح هو الاحتمال الثاني.