كلّ ما جرى، منذ لحظة غرق مركب المهاجرين في طرابلس، يدعو للريبة. الطوق الأمني حول المرفأ لم يكن مفهومًا، ولا الحرص على إبعاد غرف الطوارئ عن التغطية الإعلاميّة. ساعات قليلة بعد الحادث كانت كافية لمعرفة أنّ وراء الأكمة ما وراءها، وأنّ المسألة لا ترتبط بغرق بريء. شهادات الناجين كانت واضحة:
ثمّة تدخّل جرى من قِبل بحريّة الجيش اللبناني، وهو ما أدّى إلى غرق المركب بمن فيه.
جاءت روايات الجيش في اليوم التالي متناقضة:
- البيان الأوّل تحدّث عن حادث غرق، نتيجة تسرّب المياه بسبب ارتفاع الموج، وحمولة المركب الزائدة. هنا، لم يوحِ البيان بأي عامل خارجي أدّى إلى الحادث، باستثناء عامل الموج. الدور الوحيد للقوّات البحريّة التابعة للجيش تمثّل في تدخّلها كقوّة إنقاذ بعد حصول الحادث، بالإضافة إلى توقيف مواطن على صلة بعمليّة التهريب، بحسب البيان.
- بعد شيوع أخبار دور بحريّة الجيش في عمليّة الغرق، اضطرّت قيادة القوّات البحريّة إلى عقد مؤتمر صحفي أكثر تفصيلّا، اعترفت فيه بحصول اصطدام بين طرّاد الجيش اللبناني ومركب المهاجرين. لكنّ المؤتمر الصحفي عاد وألقى اللوم على سائق المركب الذي قام بمناورات أفضت إلى صدمه طرّاد الجيش، ما أدّى إلى غرق المركب. تتناقض هذه الرواية بشكل جذري مع شهادات الناجين الذين أكّدوا أنّ عمليّة الصدم جاءت على نحو متعمّد، بعد تحذيرات وجّهها إليهم الضابط الموجود على الطرّاد.
يؤكّد التناقض بين البيان والمؤتمر الصحفي، على نحو لا يقبل اللبس، أن ثمّة من حاول لفلفة المسألة في اليوم التالي، وتحديدًا من جهة مسؤوليّة الجيش اللبناني في الحادث. وعلى أي حال، وبمعزل عن تفاصيل ما جرى في تلك الليلة، يؤكّد المؤتمر الصحفي أن بحريّة الجيش اقتربت بالفعل من المركب لمسافة صفر، بخلاف البروتوكولات العسكريّة التي تقضي بالحفاظ على مسافة آمنة في هذا النوع من الحالات، إذا كان المطلوب الحفاظ على حياة المهاجرين على متن المركب، بدل اعتراض طريقهم على نحو يعرّض حياتهم للخطر.
التساؤل هنا يرتبط تحديدًا بسبب اندفاع بحريّة الجيش اللبناني للتدخّل بهذه الطريقة في عرض البحر، والمجازفة بحياة روّاد المركب على هذا النحو.
فإذا كان القلق على حياة ركّاب المركب هو الدافع الأساسي للتدخّل، فاعتراض المركب عن قرب، بمعزل عن كيفيّة صدمه، حقّق الضرر الذي كان يفترض أن يحول دونه التدخّل، أي خطر غرق المركب لاحقًا.
أما التساؤل الأهم، فهو عن سرّ التدخّل في وجه هذا المركب بالتحديد، خصوصًا وأنّ مراكب تهريب البشر اعتادت على مدى السنوات الماضية العمل بحريّة في المياه اللبنانيّة، بتواطؤ مع الأجهزة الأمنيّة، وبغطاء سياسي يحول دون منعها، ومع شبكة معروفة من الأشخاص الذين يعملون في هذا المجال ويدفعون ما يلزم من رشى تحول دون توقيفهم. ولعلّ الإجابة عن هذا السؤال يُفترض أن تكون أحد محاور التحقيق في المرحلة المقبلة، لعلّها تجيب عن سبب اعتراض المركب بهذا الشكل الشرس والخطر.
في الجانب الجنائي، سلّمت قيادة الجيش بالخضوع للتحقيق اللازم لكشف ملابسات الحادث، ولو أن هذا التحقيق سيكون بطبيعة الحال من اختصاص محكمة استثنائيّة تخضع لسطوة المؤسسة العسكريّة نفسها، أي المحكمة العسكريّة. وخضوع التحقيق للمحكمة العسكريّة سيطرح بطبيعة الحال السؤال عن موضوعيّة هذا التحقيق، وقدرته على إحقاق الحق لذوي الضحايا.
في جانب المسؤوليّة السياسيّة، وبمعزل عن تفاصيل المسؤوليّة الجنائيّة، تتحمّل الدولة اللبنانيّة وسياساتها الاقتصاديّة منذ عقود مسؤوليّة الإجحاف الذي لحق بمدينة طرابلس والشمال عمومًا. لكن ولسخرية القدر، لم تجد الحكومة إجابة على هذه المشاكل سوى بتأسيس «مجلس إنماء الشمال» الذي أعاد التذكير بتجربة «مجلس الجنوب» الذي تحوّل في يومٍ من الأيام من مؤسسة إنمائيّة إلى مضرب مثل في تحويل مؤسسات الدولة إلى أدوات زبائنيّة حزبيّة محليّة. وبدل إعادة النظر في شكل الاقتصاد الذي أنتج الواقع الذي تعيشه طرابلس، عادت الحكومة إلى الأفكار المعلّبة التي لا يتقن أركان النظام غيرها: المجالس الخدماتيّة التي تعيش على هامش الأزمات الدائمة.