يوميات سوريا
زياد ماجد

العودة إلى سوريا

28 كانون الثاني 2025

هذا نص شخصي وفيه صور التقطتُها خلال زيارتي لدمشق في الأسبوع الثاني من كانون الثاني الجاري (2025). أشكر الصديقة رافية قضماني على كرم الاستقبال والصديقات كوليت بهنا وسعاد جروس وزينة شهلا وشيرين الحايك وعلا رمضان وعزة أبو ربيعة على حلو اللقاءات والمودّة، وعمر ملص ونور الدين الأتاسي ونادر الأتاسي والكثيرين ممّن تشرّفنا بالتعرّف إليهم على الحدود اللبنانية السورية وفي شوارع دمشق على أنس الرفقة وأحاديثها. وأشكر أخيراً وليس آخراً العزيزين عبد الحي وكندة السيّد على الاجتماع الممتع والمحفّز على التفكير في ضيافتهما. 

ليس بوسعي بعدُ تحليل الشعور المركّب والمعقّد الذي انتابني في دمشق، وفي الطريق إليها. فأن أذهب إلى سوريا لأول مرة منذ العام 2003، وبعد سقوط النظام الذي قتل وعذّب وسجن ونفى وآذى ملايين البشر منذ 54 عاماً، وأن أذهب إليها ومعي أطياف أصدقاء سوريين ولبنانيين وفلسطينيين اغتالهم النظام إياه أو خرّب حياتهم، ففي الأمر ما يثير في الوقت نفسه التهيّب والحزن والفرح والرغبة بالاحتفاء بانتصار عامٍّ وفرديّ حميمٍ باهظ الكلفة. 

وأن أذهب إلى سوريا برفقة فاروق مردم بك العائد الى بلده لأول مرة منذ العام 1975، وصبحي حديدي، العائد لأول مرة منذ العام 1987، وقد تشاركنا في باريس العمل وكتابة النصوص حول سوريا ودعماً لثورة أهلها على مدى سنوات، وأن يكون محمد علي الأتاسي منتظراً إيانا لنترافق في الطريق من بيروت إليها، فنجد ياسين الحاج صالح وأصدقاء أعزّاء فيها، فالأمر يشبه الحلم المتحقّق بعد كوابيس وأحزان دامت لسنوات.


نَفتَلين دمشق

في دمشق، سرنا في الشوارع المكتظّة أو داخل الأسواق الملوّنة وفي أرجاء المسجد الأموي والخانات وباحات البيوت القديمة، واستكشفنا أمكنة كانت مألوفة لنا بفوارق زمنية متباعدة. بعض معالمها تبدّل كما تبدّلت المدينة بأكملها. وبعضها الآخر، عثر فاروق عليه من دون عون عابري السبيل.

وفي دمشق أيضاً، مررنا بجوار مراكز أمنية سابقة ومبانٍ كان الناس يتجاذبون الحديث همساً وهُم يشيحون النظر عنها متجنّبين التفكير في معاناة الآلاف من نزلائها، ممّن تحرّروا بعد إسقاط النظام، أو اختفوا كالأشباح وما زال أهاليهم يحاولون تقفّي أثرهم في كتابات حفروها على جدران زنزاناتهم أو في أوراق وبطاقات هوية متناثرة أمام المعتقلات، هي ما تبقّى من ملفّات المخابرات وأجهزتها.

ملامح الأزمات الاقتصادية المتراكمة في الحياة اليومية للسوريّين ظاهرة في معظم أرجاء المدينة، والأحاديث حولها وحول التبدّلات التي أصابت المجتمع دائرة على الألسنة المتحرّرة من عبء الصمت الثقيل منذ الثامن من كانون الأول الماضي. والنقاش حول المستقبل واحتمالاته وحول المخاوف والأحوال الأمنية وسُبل صون الحريات المنتزَعة ومسائل العدالة الانتقالية يتشعّب ويلامس قضايا جوهرية لم يبدأ الخوض فيها رسمياً بعدُ على مستوى السلطات الجديدة التي تواجه تحدّيات كبرى وتجهد لتثبيت نفسها وتبدو ناجحة في ذلك، نسبياً على الأقل، حتى الآن. والابتسامات والميل لاعتبار الأمور مُقبلة على تحسّن تؤكّد أن ثمة رغبة عارمة في التمسّك بالأمل وبحقل الممكن الذي انفتح منذ سقوط النظام الأسدي وهروب رئيسه.

رائحة النَفتلين رافقتني كل يوم. أظنّها أتت من مفروشات غرفة الفندق ولحاف سريره. ثمة ما سرّني في رفقتها، ليس فقط لما تثيره من تذكّر بدايات الشتاء البيروتي حين كنّا نُنزل من التتخيتة الملابس الشتوية ونفرغ حقائب احتلت زواياها مدوّرات النفتلين الصغيرة لحماية صوف كنزاتها، بل أيضاً لكونها بالنسبة لي مجازاً يعبّر عن بعض ما أراه. عن مجتمع خرج لتوّه من حقيبة كبرى محكمة الإغلاق، في بداية شتاء هو ببرده ومطره عودتُه الفعلية إلى الحياة، ملفوفاً برائحة نفتلين ستزول تدريجياً كلّما هبّ عليها الهواء الآتي من جبل قاسيون أو من الجبال الغربية...


جوبر وزملكا واليرموك والسير فوق رفات العباد

الخروج من دمشق نحو الغوطة هو بدوره مدعاة رهبة ودموع. شخصياً كنت قد عاهدت نفسي على زيارة موضعين في أول زيارةٍ سوريةٍ: جوبر، ومخيّم اليرموك (على أن أزور درعا البلد وحيّ بابا عمرو في زيارة لاحقة). 

ذلك أنّ حي جوبر، على بعد مئات الأمتار فقط من ساحة العباسيين الدمشقية، كان خط التماس ومحور الثورة الأكثر تقدّماً وصموداً في مواجهة النظام وحلفائه الروس والإيرانيين وأعوانهم، بعد أن كان واحداً من أبرز مسارح المظاهرات السلمية. وقد شهد في 22 نيسان 2011 مسيرة كبرى ارتكب النظام مجزرة ضد المشاركين فيها الذين كانوا يكشفون عن صدورهم لإظهار سلميّتهم، فيتلقّون رصاص الرشاشات ثم سكاكين الشبيحة. كما شهد أيضاً في ربيع العام 2013، بعد تحوّل الثورة الى كفاح مسلّح مرير، ثاني هجوم كيماوي شنّه النظام (بعد هجوم حمص في كانون الأول 2012 وقبل أشهر من الهجمات الصيفية الواسعة على الغوطة في آب 2013)، ما أدّى الى مقتل العشرات من أبنائه الثابتين في مواقعهم. وظلّ الحيّ مسرحاً للقتال فوق الأرض وفي أنفاق تحتها حتى العام 2018، ولم ينجح جيش النظام وحلفاؤه في التقدّم فيه أو احتلاله رغم تدميره شبه الكامل، لغاية سقوط الغوطة واضطرار مقاتليه للانسحاب نحو الشمال، في الباصات الخضر، إثر الاتفاق مع الروس.

أما مخيّم اليرموك، أو فلسطين الصغرى، فإضافة الى رمزيّته الكبرى، والى ما فعله «نظام الممانعة» بأهله الفلسطينيين (والسوريين) قتلاً وتنكيلاً وتجويعاً، فلي معه قصص شخصية ترتبط بصداقات ومراسلات جرت خلال حصاره، وبشراكة مع مخرج فرنسي اسمه آكسيل سالفاتوري-سينز تخلّى عن أطروحة دكتوراه كان يعدّها عن اليرموك ليصبح سينمائياً، وانصرف لكتابة وتصوير فيلم عن شباب المخيم، بديع في صوره وفي جرعات الظُّرف والحنان وروابط الصداقة والحبّ التي تابعها على سطوح بيوته. أبطال الفيلم وأصحابهم قُتل بعضهم لاحقاً، قنصاً أو تحت التعذيب، وهُجّر بعضهم الآخر وتوزّع على دول الجوار وأوروبا. الأمكنة التي صوّر الفيلم قصصها دُمّرت، والمخرج نفسه الذي طلب منّي تقديم الفيلم في عروضه الباريسية الأولى ثم أدخلني في إصدار «دي في دي» الفيلم المُنتج لاحقاً عبر مقابلة عن ثورة سوريا وتاريخ مخيمات الفلسطينيين فيها، توفّي قبل سنوات، وبقي لي نسخة الفيلم التي أهداني إياها قبل رحيله المفجع...

هكذا خرجنا صباحاً من دمشق أولاً باتجاه جوبر، ثم باتجاه زملكا لزيارة الأخ أبو عماد يوسف الهوش، أحد أبرز وجوه العمل الثوري المدني في الغوطة، الذي اضطر إلى مغادرتها نحو إدلب العام 2018، ثم عاد إليها بعد سقوط النظام. جال بنا أبو عماد، ومعه الأخ محمد في أرجاء زملكا وفي مقبرة شهدائها وشهداء الغوطة الذين لم توضع الشواهد على قبورهم خوفاً من تحطيمها ونبشها من قبل جنود النظام البائد.

صور من حيّ جوبر المدمّر تدميراً شبه كلّي. السير فيه صعب، إذ تكثر الكلاب الشاردة، وهي تقترب من كل حركة بشرية طمعاً بما قد يتكرّمه البشر عليها، أو سعياً «لانتزاع حقّها» في ذلك بالقوة.

صورتان من زملكا وصورة من مقبرة زملكا حيث دُفن أكثر من ألف شهيد من شهداء الثورة السورية، قُتل 900 منهم بالهجوم الكيماوي في 21 آب/أغسطس 2013. 

ثم كانت زيارتنا الثانية الى مخيّم اليرموك، جنوب دمشق، بعد الظهر، برفقة الأخ أحمد شحادة. المخيّم المنكوب والمنهوب يذكّر ببعض مشاهد الدمار في مخيّمَيْ جباليا والشجاعية حيث فعلت الهمجية الإسرائيلية ما فعله الأسديّون جنوب العاصمة دمشق. 

صور من مخيم اليرموك الذي تناوب النظام الأسدي وداعش والروس على تدميره بين العامين 2012 و2018، والذي بحث الروس والإيرانيون في مقبرته عن رفات جنود إسرائيليين، فنبشوا القبور أو ما كان قد سلم منها من قصف البراميل والمدفعية. 
صورة من مقبرة اليرموك
صورة قبر القائد الفلسطيني أبو جهاد (خليل الوزير) الذي اغتاله الموساد في تونس العام 1988، وبجانبه قبر ممثّل منظمة التحرير الفلسطينية في فرنسا عز الدين القلق الذي اغتالته جماعة أبو نضال في باريس العام 1978.

بعض الناجين أو العائدين إلى اليرموك يفتتحون صيدلية هنا، ومحل ألومنيوم وزجاج هناك. ثمة بسطات أيضاً تبيع بعض الاحتياجات، وأولاد يلعبون كرة القدم بين أشلاء المباني أو في حارات ما زال فيها بعض الحياة. أمام المقبرة نسوة يجلسن على حجارة ويتأمّلن غروب شمس نهار آخر.

ثلاث صور عن كرة القدم والحياة المستمرّة رغم كل شيء في اليرموك.

نعود مساء إلى دمشق. في داخلنا كمٌّ من المشاعر يحتاج إلى زمن للتعامل معه. لا مبالغة أبداً في القول إن أكثر ما حضر خلال سيرنا في جوبر وزملكا واليرموك كان قول أبي العلاء المعرّي الأثير: خفّف الوطء ما أظنّ أديم الأرض إلا من هذه الأجساد.

سلام إلى من انغرسوا في الأرض لنسير محرّرين من نظام التوحش ونهش الأجساد والأرواح...

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
تعليق

مواكب العودة إلى الداخل

سامر فرنجية
وُلد طفله بنطفةٍ محرّرة
29-01-2025
تقرير
وُلد طفله بنطفةٍ محرّرة
الأسير محمد يلتقي بابنه للمرّة الأولى
4 معايير حدّدها نوّاف سلام لتشكيل الحكومة العتيدة
حدث اليوم - الأربعاء 29 كانون الثاني 2025
29-01-2025
أخبار
حدث اليوم - الأربعاء 29 كانون الثاني 2025
ماذا يريد بوتين من أحمد الشرع؟
29-01-2025
تقرير
ماذا يريد بوتين من أحمد الشرع؟
ثالث عمليات تبادل الأسرى مع الاحتلال الخميس