في كانون الأول 2020، أقرّ مجلس النواب القانون رقم 205 الرامي الى «تجريم التحرش الجنسي وتأهيل ضحاياه».
شكّل إقرار هذا القانون خطوة ملحوظة لمكافحة التحرّش في لبنان ولإيجاد إطار قانوني لمساعدة الناجين منه في التصدّي له وملاحقة مرتكبيه، إذ ملأ فراغاً تشريعياً بإيجاده أخيراً تعريفاً قانونياً للتحرّش يمكن التسلّح به لملاحقة الفاعل. لكن لا تزال تشوب القانون الجديد ثغرات وإشكاليات عدّة قد تؤدّي إلى تعطيل فعاليّته.
سبق لي أن دوّنت ملاحظاتي بهذا الشأن في مقال سابق نُشر في المفكرة القانونية، وأستعيد هنا إشكاليات القانون الجديد الأساسية قبل الإشارة إلى سبل معالجة بعضها بشكل آني:
1- مقاربة المشرّع الأخلاقيّة لتجريم التحرّش ووضع الناجية منه على هامش فلسفة القانون
تجلّى هذا الأمر في زاويتين أساسيّتين:
في تعريفه للتحرّش
استخدم المشرّع تعبير «سلوك سيّئ... خارج عن المألوف» في توصيفه للفعل المُقترف من قبل المتحرّش ضمن تعريفه للتحرّش الجنسي، وهو أمر يشي بمقاربة أخلاقية لإشكالية التحرّش في المجتمع ويُدخل عنصراً غير موضوعي لتوصيف فعلٍ ما على أنه يشكل تحرّشاً. كما يُبعد ضحية التحرّش من قلب فلسفة النص القانوني ليستبدلها بحماية الأخلاق العامة، ما قد يؤدي إلى إقحام القانون الجزائي (وتالياً السلطات العامة) بالحياة الخاصة، وإغراقه في دهاليز الأخلاقيات الفردية والاجتماعية المختلفة والمتغيّرة. أضف إلى ذلك ما قد يتفرّع عن هذا الأمر من صعوبات في تطبيق النصّ (مثل تأويل النص لإعفاء المتحرّش من المحاسبة القانونية في حالات التحرّش الواقعة في أطر العلاقات الزوجية أو بمعرض الخطوبات إلخ.)
في ملاحقته للتحرّش
وفق القانون الجديد، لا تتوقّف ملاحقة الفاعل على شكوى الضحية (أي قد تُباشر بالرغم من إرادتها)، لا سيما في حال استخدم الفاعل «الضغط الشديد المادي أو النفسي أو المعنوي أو العنصري على الضحية» أو إذا ارتُكِب الفعل من قِبل من لديه «سلطة مادية أو معنوية أو وظيفية» (وهي معظم حالات التحرّش). بمعنى آخر، لم يترك المشرّع أي هامش لناجية التحرّش بالتحكّم بمآل الدعوى (والعدول عنها، إن شاءت)، وألزمها بتوصيف غالباً ما يكون جنائياً مع ما يتبع ذلك من تحريك لدعوى الحق العام، ومن أصول للمحاكمات قد لا تأتلف بتاتاً وطبيعة قضايا التحرّش الحساسة. وقد يساهم ذلك في ردع الناجية عن التقّدم بشكواها وملاحقة من اعتدى عليها. يشكّل هذا الأمر دليلاً آخر على تهميش الناجية من فلسفة القانون، ومقاربة الأمر من زاوية أخلاقية تهدف إلى حماية المجتمع والحق العام أكثر ممّا تهدف إلى حماية ضحايا التحرّش.
2- وضع آلية قانونيّة لا تأتلف وطبيعة قضايا التحرّش
وهو أمر يُستشَفّ من إشكاليّتين أساسيتين في القانون الجديد:
عدم تخفيف عبء الإثبات على الناجية من التحرّش، بحيث أوجبها إثبات تداعيات التحرّش لتكوين الجرم.
فقد استخدم القانون صيغة النتيجة الحاصلة بدل النتيجة الممكنة أو المتوقعة، مثل: «سلوك… يشكّل انتهاكاً للجسد أو للخصوصية أو للمشاعر» بدلاً من اعتماد أحرف التوقّع مثل «قد يُشكّل…» أو في استخدامه تعبير «كلّ فعل أو مسعى… يهدف فعلياً للحصول على منفعة ذات طبيعة جنسية يستفيد منها الفاعل» إلخ. وهذا الأمر إنما يحتّم على الضحية إثبات الضرر وحتى النيّة («يهدف فعلياً»)، وهو أمر غالباً ما يستحيل إثباته في قضايا التحرّش.
تغييب روابط السلطة من المعادلة
في حين عاقب القانون الجديد التحرّش أيّاً يكن المكان الذي وقع فيه، فهو بالمقابل لم يميّز بين أجيرة وصاحب عمل في حال وقع التحرّش في إطار العمل. وهذا الأمر يفتح باباً واسعاً أمام أصحاب العمل لاستغلال القانون ضد أُجَرائهم. فالمشرّع لم يأخذ في الاعتبار طبيعة علاقات العمل غير المتساوية في لبنان، وساوى حيث لا يجب، ما قد يؤدي الى إفراغ القانون من غاياته. والواقع أن تشريعات مماثلة للتحرش (والمُشار إليها بـ«العمودية التصاعدية») هي جد نادرة في القانون المقارن، وتتطلّب طبيعة غير هرمية لعلاقات العمل، الأمر المغيّب تماماً عن الاقتصاد اللبناني اليوم.
3- تغييب التحرّش المعنوي من الحماية القانونية، لا سيّما في إطار علاقات العمل
يبقى أن هناك جوانب لا تحصى من التحرّش المعنوي من شأنها أن تؤثر مباشرة على التدريب المهني أو على الاستمرارية في الوظيفة أو على الترقي فيها أو على الأجر أو أن تحدث بيئة عمل تخويفية أو عدائية أو ضاغطة أو مذلة (مثل التنمّر بسبب الهوية الجنسية أو الجندرية أو بسبب إعاقة أو وضع اجتماعي إلخ.). تكمن أهمية إدراج مثل هذه الأحكام في إمكانية التصدي إذ ذاك لمختلف أنواع التعسّف والترهيب والتسلّط الذي يعاني منها عدد هائل من الأجراء اليوم في لبنان، وهم غالباً ما يخضعون لها بسبب حالة التبعية المهنية والمالية الملاصقة لعلاقات العمل في اقتصادنا النيوليبرالي.
ماذا عن السُبل البديلة التي قد تسمح للناجين ملاحقة مختلف أنواع التحرّش أمام القضاء المدني، بعيداً عن فضاء المحاكم الجنائية وإجراءاتها غير الحاضنة لهذا النوع من القضايا، وبعيداً عن الشوائب والثغرات التي تعتري القانون الجديد؟
سنة 2019 (أي قبل إقرار القانون الجديد)، نشرت على موقع المفكرة القانونية، مرافعة نموذجية لمكافحة التحرّش في مكان العمل ، سواء كان التحرّش جنسياً أو معنوياً أو نفسياً، مع الأخذ في الاعتبار أن أكثر الفئات عرضة للتحرّش هي الفئات المهمّشة قانونياً واجتماعياً. وقد استنبطت حجج المرافعة وفلسفتها من بعض بنود القانون الوضعي اللبناني والعهود الدولية المصدّقة من لبنان لبناء اطار قانوني للتحرّش، لم يكن متوفراً آنذاك.
اليوم، لا تزال هذه المرافعة النموذجية صالحة للاستخدام، لا سيما لملء الشوائب والثغرات التي خلّفها القانون الجديد (مثل الذهاب الى القضاء المدني بدل القضاء الجزائي ورفع شكوى تخص تحرشاً معنوياً – مثل التنمّر بسبب الميول الجنسية أو لأي اعتبار آخر إلخ.). وهو أمر ممكن سنداً لأحكام قانون أصول المحاكمات الجزائية التي تعنى بسبق خيار المرجع القضائي، وبإقامة دعوى الحق الشخصي تبعاً لدعوى الحق العام أمام المرجع القضائي المقامة لديه هذه الدعوى، أو على حدة أمام المرجع المدني. يبقى أنه بالرغم من أحكام القانون الجديد لناحية مباشرة الدعوى دون شكوى (أو بالرغم من إرادة) الناجية، لا يزال بإمكان الناجية الاستعانة بالمرافعة النموذجية للذهاب أمام المرجع المدني (في حال اختارت اللجوء إليه بدل الذهاب إلى القضاء الجزائي) أو أمام المرجع الجزائي (في حال مباشرة دعوى الحق العام) لاستكمال ثغرات القانون الجديد.