أداة هيمنة ماليّة وسياسيّة
يتذكّر العارفون بتجارب صندوق النقد التاريخيّة الانقلاب الشهير في تشيلي عام 1973، يوم أطاح الدكتاتور أوغستو بينوشيه بالسلطة اليساريّة المنتخبة ديموقراطيًّا في البلاد، بدعم علني من الولايات المتحدة الأميركيّة.
في تلك المرحلة، كان من الواضح أن صندوق النقد دخل على خط تثبيت سلطة الانقلاب، من الناحيتين المالية والاقتصاديّة، بعد أن تضاعف حجم التمويل الذي قدّمه لها خلال الفترة التي تلت وصولها إلى السلطة.
في واقع الأمر، كان دخول صندوق النقد على الخط بهذا الشكل يتوازى مع عناوين اقتصاديّة مستجدة فرضها بينوشيه في تلك المرحلة، وخصوصًا بعد استقدامه «صبيان شيكاغو» الذين تطرّفوا في تبنّي شعارات الاقتصاد الحرّ، بما يتكامل مع عمليّة قمع الحركة النقابيّة في البلاد لوأد أي عناوين مناهضة يمكن أن تحمل أولويّات العدالة الاجتماعيّة.
كانت تلك الحادثة مجرّد مثال عن النقاط السوداء الكثيرة التي تراكمت تاريخيًّا في سجل الصندوق، والتي ألصقت به سمعة المؤسسة الدوليّة التي يمكن أن تذهب بعيدًا في مُمالأة المستبدّين الذين يملكون قدرة ونيّة فرض أجندة الصندوق القاسية على المستوى الاجتماعي. وفي واقع الأمر، وبعيدًا عن شعارات «تعزيز سلامة الاقتصاد العالمي» و«دعم سياسات التصحيح والإصلاح» التي يرفعها الصندوق، لطالما عكس أداء الصندوق تحوّله إلى أداة من أدوات الهيمنة الماليّة والسياسيّة، بمعزل عن مصالح الشعوب المحليّة وحسابات الأمان الاجتماعي.
بدعة إشراك أصحاب المصلحة
لكل هذه الأسباب، أضاف صندوق النقد إلى العناوين التي يسوّقها إعلاميًّا بعض الشعارات التي استجدّت مؤخرًا، كضرورة تأمين «توافق محلّي» على أي خطّة يمكن أن يتفاهم عليها مع السلطات المحليّة، أو «إشراك أصحاب المصلحة» المتأثّرين بهذه الخطط.
في الحالة اللبنانيّة، دسّ الصندوق مطلب العمل على «شبكة حماية اجتماعيّة» بين المطالب التي تفاوض عليها مع الوفد اللبناني سنة 2020، في محاولة لاستعراض التفات الصندوق لهذا النوع من الاولويّات والقضايا واهتمامه بها.
وهذا النوع من الخطوات التي تهدف إلى تسويق برامج الصندوق، هو ما دفعه أيضًا إلى اشتراط إشراك الإتحاد التونسي للشغل في مباحثاته مع السلطات التونسيّة، في محاولة لمحاباة القوى التي تمثّل الشرائح العماليّة في البلاد.
مع كلّ هذه الأساليب التي استجدّت في عمل الصندوق، لا يبدو أن القيّمين عليه غيّروا كثيرًا في منهجيّة عملهم، وخصوصًا من جهة البراغماتيّة المفرطة في محاولة التوصّل إلى تفاهمات على خطط قابلة للتنفيذ من قبل السلطات المحليّة، ولو على حساب عدالة هذه الخطط أو طريقة صياغتها والعمل عليها.
صندوق النقد والحكومة اللبنانية
سنة 2020، جمّد صندوق النقد مفاوضاته مع الدولة اللبنانيّة، رغم تبنّي الحكومة خطّة ماليّة واضحة المعالم، ورغم إقرار هذه الخطّة بشكل رسمي على طاولة مجلس الوزراء. في تلك المرحلة، كانت ذريعة وفد الصندوق عدم وجود تفاهم داخلي على هذه الخطّة، بعدما رفض مصرف لبنان ولجنة المال والموازنة وجمعيّة المصارف التسليم بمقارباتها وأرقامها.
مع الإشارة إلى أنّ مصرف لبنان لم يمتلك في تلك المرحلة الصلاحيّة الدستوريّة او القانونيّة لنقض قرارات تتخذها الحكومة بوصفها سلطة تنفيذيّة، كما لم تمتلك مراجعات لجنة المال والموازنة أي مفعول قانوني طالما أنّها لم تتحوّل إلى تشريع يتبنّاه المجلس النيابي.
في الوقت الراهن، تسير الحكومة اللبنانيّة في مباحثاتها التمهيديّة مع صندوق النقد، وهي مباحثات أفضت حتّى اللحظة إلى صياغة مقاربات تحديد الخسائر وقياسها، تمهيدًا للتفاوض على المعالجات والسياسات التصحيحيّة في مرحلة التفاوض الرسمي.
كلّ هذه المفاوضات لا تتّسم اليوم بأدنى حد من الشفافيّة أمام الرأي العام والفئات الاجتماعيّة المتأثرّة بالخطّة التي يتمّ إعدادها، بل دون أن يتمّ أيضاً «إشراك أصحاب المصلحة» في هذه المباحثات. ومع ذلك، تابع صندوق النقد جميع مداولاته مع السلطة اللبنانيّة، دون أن يبدي أدنى درجة من الحرص على التوافق الداخلي حول الخطّة كما فعل خلال العام 2020، يوم تباينت رؤى الحكومة مع رؤية جمعيّة المصارف ومصرف لبنان للحل في لبنان.
طيلة الفترة الماضية، ونتيجة تمادي أقطاب الحكم في رفض أبسط الشروط التصحيحيّة المطلوبة للخروج من الانهيار، تم تصوير الصندوق إعلاميًّا كجهة قادرة على فرض الإصلاحات الاقتصاديّة على النظام السياسي اللبناني، بل وتمّ تسويقه في بعض الأحيان كعتبة خلاص بمجرّد توقيع لبنان لبرنامج قرض معه. لكنّ آخر التطوّرات على مستوى المحادثات مع الصندوق، وخصوصًا طريقة عقد هذه المحادثات، واستنسابيّة الصندوق في التشديد على التفاهم الداخلي على الخطّة الماليّة، لا تبشّر بالكثير من الخير.