لبنان قد لا يصبح غزة. هذا مرهون بسير المعارك على الأرض في القرى الحدودية، وبتطوّرات الأحداث السياسية على الساحة الدولية، وبخطّ سير مفاوضات الوسطاء وزيارات الموفدين، والجبهة الداخلية الإسرائيلية ونتائج الانتخابات الأميركية.
لكن حتى الآن، في الزمن الإسرائيلي الذي يعيشه العالم، تحضر غزّة كتأطير لكلّ ما سيحدث بعدها. كان هذا واضحًا في خطاب نتنياهو الذي توجّه فيه للّبنانيّين «مخيِّرًا» إياهم بين أن يكونوا فلسطينيين أو أن لا يكونوا.
وكلّ «خيار» يأتي مع ثمنه.
بحسب خطاب نتنياهو الذي بُثَّ قبل تصاعد العمليات البرية، على اللبنانيين اجتثاث حزب الله وإلا فإن إسرائيل ستجعل من لبنان غزّة أخرى. والكلّ يعرف أنَّ دعوة كهذه، وبخلاف كونها وصفةً سهلةً للحرب الأهلية، فإنّ طرحها بهذه الخفّة ليس إلا محاولة لاستدعاء شيطان التفاصيل السياسية المحلية. إنَّ نتنياهو «يخيِّر» لبنان بين أن يكون غزة أخرى أو أن يكون لبنان الاحتراب الأهلي، وهو يقسِّم الجماعات اللبنانية بين فلسطينيين أو لا-فلسطينيين، كلاهما ضمن إسرائيله الكبرى.
النظرة القريبة لغزّة منذ عام، وللبنان في الأسابيع الماضية، تقدّم مسارًا أوّليًا لتنفيذ خطاب نتنياهو على أرض محروقة، عبر إفراغ مناطق الجنوب والبقاع والضاحية من السكان ببثّ خرائط ومربّعات الموت وقصفها، بالإضافة إلى الضربات في مناطق ومباني النزوح، واستهداف الطواقم الطبية والصحفية، والتفخيخات المتلاحقة التي فجّرت ومسحت أجزاء رئيسية من قرى لبنانية جنوبية وازدادت وتيرتها الأسبوع الماضي.
إن أسرلة العالم تأتي للمفارقة، وعلى الأقل حتى الآن، مع فلسطنته. وبهذا المعنى، فإنَّ اللبنانيين، شاؤوا أم لا، هم كلهم فلسطينيون في ذهن نتنياهو، فهم إما فلسطينيون أعداء، أو فلسطينيون سينشغلون عن إسرائيل باقتتالهم الداخلي.
وهذا ما لا يركز عليه الخطاب العقلاني اللبناني والعربي الذي يهجس بنظرة تحليلية ارتجاعية يمكن تلخيصها بـ«كنّا نعلم وقلنا لكم»، وينظِّر في ضرورة إنهاء «القضية» (مع هجس مبالغ به بمركزيّتها كرد فعل على الخطاب القومي/الإسلاموي)، ويطرح إعلان الهزيمة الكاملة كمخرج. وبهذا، تجنح العقلانية نحو عكسها. إنها عقلانية مقيمة في الماضي القريب الذي صار مُغرقًا في البُعد. وهي تصير عبر طرحها عقلانيةً غير عقلانية، فلا تنتبه أنَّ المركزة المستعادة للقضية الفلسطينية في الشعور العربي هي نتاج إعادة (أو إبقاء) نظم الاستبداد بالتوازي مع المضيّ بِمَسار الأسرلة في المنطقة. كذلك تغضّ هذه العقلانية النظر عن لحظات عقلانية إقليمية سابقة، كدعم 30 يونيو مثلًا أو المبالغة في التنظير للتدخلات الأجنبية العسكرية في أكثر من بلد عربي، أنتجت، من ضمن ما أنتجت، هذا الزمن الإسرائيلي الذي نعيشه.
والعقلانية إذ تقدّم نفسها في الظاهر على تضادّ دائم مع انهماك شعوري يجب أن لا يحدث، أو على الأقل يجب أن لا يدير المرحلة، فإنها تُنتِج تورُّطَها الشعوريّ المتطرِّف عبر الصراخ المستمرّ على من تراهم منهمكين شعوريًا في مواقف «معاكسة» لها، وتنظِّر لضرورة التسليم الكامل.
في لبنان حاليًا، تودي العقلانية في إعدامها لانهماكها الشعوري وتركيزها على نقاش تفاصيل تفادي الحرب من زمن سابق، إلى موقف غير سيادي بمعايير الخطاب العقلاني نفسه في اليوم السابق للحرب. أما الانهماك الشعوري بلا تأطير عقلاني، فينتهي محض استهلاك لحظيّ تابع.
وإن كانت ثمة عقلانية ضرورية الآن، فهي السعي لوقف الحرب عبر الإكمال في الجهود الدبلوماسية، وتثمير المسار التفاوضي الذي بدأ يتشكل. لكن على عكس فهم عقلانية «إعلان الهزيمة» للَّحظة، فإن وقف الحرب لن يحدث إلا على إيقاع استمرار صدّ التوغّلات الإسرائيلية في الجنوب.
أما عقلانية اليوم التالي للحرب، فلا يجب أن تكون فرصة، ولا انتقامًا، من قبل أي طرف. وهي إن جنحت إلى هذه أو ذاك، ستنتج خرابًا وتمدِّد الحرب في مسار داخلي أكثر وحشية، لا يقارَن بالسقوط الحر الذي كان البلد فيه وأوصله إلى لحظة الخطر هذه.