بوادر إصلاحيّة وآمال تشرينيّة وألغام النظام
أطلق خطاب القسم موجة تفاؤل في البلاد لاعتماده لغة إصلاحية، استحضرت أسس الطرح الإصلاحي الذي رسمته القوى المدنيّة في مرحلة ما بعد الحرب، من بينها مثلًا، الجمعية اللبنانية لديمقراطية الانتخابات وحملة «بلدي بلدتي بلديّتي»، والحراك الثقافي حول الذاكرة وإعادة الإعمار، وصولاً إلى التجارب الانتخابيّة لحبيب صادق ونسيب لحود. وتضاعف هذا التفاؤل مع وصول نواف سلام إلى رئاسة الحكومة، خاصة بين أوساط جيل «17 تشرين» الذي رأى في تكليف سلام فرصة للانتقال من الخطاب الإصلاحي التقليدي إلى نهج أكثر جرأة وجذريّة، نهج لا يكتفي بالشعارات الإصلاحيّة العامة، بل يسعى لزعزعة أسس النظام الطائفي. بوادر الأمل التي تلت «الخرق» الإصلاحي في رئاسة الحكومة مبرّرة، لكنّ مؤشرات عرقلة مسار الثنائي عون-سلام تتطلب ابتكار نهج سياسي جديد في صفوف القوى التقدميّة لـ«حماية» هذه الفرصة.
بدأت الألغام تنفجر في وجه عملية تشكيل الحكومة، حتى قبل أن يبدأ سلام عمله. ففجّر الثنائي الشيعي قنبلة الميثاقية. أمّا قوى النظام الأخرى التي تفاجأت بما حدث، فتأهّبت لوضع العصيّ في دواليب العجلة الإصلاحيّة: من فرض التمثيل الحزبي في الحكومة، إلى عرقلة «حزب المصارف» لقوانين الإصلاح المالي، مروراً بتجيير أموال إعادة الإعمار لتعويم الزبائنية، وفرض المحاصصة في التعيينات الإدارية، وصولاً إلى شلّ عمل القاضي طارق بيطار في قضية المرفأ. يُضاف إلى قائمة التحديات المحلية التي لا تحصى، تحدّي التغيّرات الجذرية في سوريا وفلسطين، التي تأتي في ظل تقلّب التوازنات الإقليمية والدولية، ما يفرض التروّي والدقة المضاعفة لتحصين مسار العهد.
رغم كلّ ذلك، ثمّة عناصر قد تحمي فرصة الإصلاح، وتعيق قدرة النظام على إعادة إنتاج نفسه، ومنها الشروط الإصلاحية للتمويل الدولي لعملية إعادة الإعمار. لكنّ العنصر الأهمّ لتفادي الألغام وحماية الفرصة الإصلاحية يتمثل في الانفراج السياسي المستجد الذي أتاح للقوى التقدمية المناورة بفعالية والضغط لتكليف سلام برئاسة الحكومة.
شرط الفرصة: عودة السياسة إلى لبنان
وسط العراقيل البنيويّة للإصلاح «من فوق»، ثمّة فرصة ملموسة لإنجاح أول تجربة حكومية إصلاحية بعد الطائف. فإلى جانب كفاءة سلام ومسيرته الشخصية التي تتيح له لعب دور دبلوماسي-سياسي فعّال لتجاوز ألغام المرحلة الإنتقاليّة، هناك ما يميز تموضع سلام السياسي، وهو قدرته على بناء جسور بين تجارب جيليّة مختلفة. تماهي سلام المباشر مع «17 تشرين»، أي لحظة الطلاق الشعبي مع النظام وأحزابه، ربط اسمه بتطلعات شبابية جذرية تسعى إلى تخطي النظام والمنظومة. هذا التماهي قد يمهّد الطريق لنهج سياسي جديد يرتكز إلى ثلاثية جديدة.
أولاً، عودة «الشارع» إلى ممارسة الضغط والانخراط في العمل السياسي: والشارع هنا بمعناه الواسع، لا يقتصر على الحضور في الساحات، بل يشمل أيضاً ترجمة الإرادة الشعبية من خلال مجموعات سياسية تقدمية، ومؤسسات المجتمع المدني، وتجارب نقابية وإعلامية بديلة.
ثانياً، حراك تشريعي يقوده نواب التغيير، يسعى إلى استغلال تناقضات النظام للدفع بأجندة إصلاحيّة.
ثالثاً، سلطة تنفيذية تتفاعل مع الضغط الشعبي وتنسّق مع شركائها في البرلمان كي تضغط في الداخل وتنتزع الإنجازات من قوى النظام.
عادت السياسية إلى لبنان بعد خفوت فائض قوّة حزب الله وسقوط نظام الأسد في سوريا. أول دليل على ذلك كان نجاح المناورة السياسية التي ساهمت في وصول سلام إلى رئاسة الحكومة، والتي استطاعت إرباك قوى النظام وإفشال المخططات الإقليمية-المحليّة للتمديد لنجيب ميقاتي. ارتكز هذا النجاح إلى ضغط شعبي وإعلامي لأوساط «17 تشرين» التي رفضت أنصاف الحلول، وأداء مميز لنواب التغيير الذين نجحوا في تجاوز خلافاتهم وتنسيق جهودهم. أحرج الثنائي الشعبي-النيابي الكتل السياسية الكبرى مثل القوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي، ودفعها إلى مراجعة حساباتها، لمراعاة الإرادة الشعبيّة، عشيّة الانتخابات المرتقبة بعد سنة. قد تمهّد هذه «البروفة» بين النواب و«بيئة 17 تشرين» لتكريس نهج سياسي جديد، يجمع بين الضغط الشعبي وحراك نيابي فعّال. نهج يتيح لنواب التغيير توسيع هامش المناورة والاستفادة من تموضعهم بين الكتل والمعارضات المتنوعة لتحقيق خروق ملموسة.
تجاوز ثنائية الإصلاح والجذريّة
إذا كانت عودة السياسة والقدرة على المناورة شرطاً لتحدّي النظام، فإن السؤال يبقى حول قدرتنا على ابتكار نهج سياسي يعجز النظام عن استيعابه أو ترويضه. فنماذج الإصلاح «من الداخل»، عبر إصلاحيين تسلّلوا مؤقتاً إلى صفوف السلطة التنفيذية في لبنان بعد الطائف، لم تُسفر سوى عن إنجازات متواضعة، توّجت أبطالها بلقب «الآدمي»، ليساهموا (عن غير قصد) في تلميع صورة حكومات المحاصصة المتتالية. وكذلك تجربة النواب التغييريّين، التي تمّ استيعابها بسرعة من قبل نظام يفوقها قوّةً ونفوذاً، ما مكّن هذا النظام من شلّ قدرتها على المبادرة. من جهة أخرى، عجزت الطروحات الجذريّة لبعض المجموعات التقدميّة المنبثقة من «الشارع»، عن الابتكار والإبداع والخيال، فاتسمت بالجمود والعجز على التكيّف مع المتغيرات، ما جعلها عاجزة عن انتزاع الفرص السياسيّة.
أمام بيئة «17 تشرين» فرصة للنضوج، نحو كسر الجدار العازل بين الجناحين الإصلاحي والثوري لقوى التغيير في لبنان، بعدما عجز كلّ من الجناحين عن تقديم استراتيجيات مقنعة لخرق جدار النظام.
ثمة نماذج عديدة لحركات ثورية استطاعت التوفيق بين جناحيها الجذري والإصلاحي لإحداث تغييرات سياسيّة بنيويّة، كما في حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة وحركة مناهضة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. يمكن للجناح الجذري التنسيق مع حلفاء إصلاحيين من دون التنازل عن مساره، مما يعني رفع سقف الطموحات والضغط من خارج المؤسسات لتحقيق التنازلات. لكنّ التحالف مع الإصلاحيين يجب أن يبقى نديّاً وفعّالاً، فلا يتحوّل إلى حالة عرقلة مستمرّة ولا إلى حالة تخشى الانتقاد وتعتاد التنازل. يتطلب ذلك خطوتين: أولاً، الانتقال من التنظيمات المبعثرة إلى بنى سياسية صلبة، عبر دمج المجموعات الصديقة في أحزاب، وبناء تحالفات لتحديد مطالب وفرض أجندات. ثانياً، على القوى الإصلاحية في السلطة التنفيذية فتح قنوات مع الجناح الجذري للاستفادة منه في الداخل، دون أن يؤثر ذلك على هامش المناورة أو المقايضة.
انتخابات أيار 2026
المهمة الأساسيّة اليوم هي حماية الفرصة الإصلاحية من ألغام النظام من جهة، ومن خطر الرضوخ لقواعد اللعبة السياسية التقليديّة، من جهة أخرى. بمعنى آخر، يجب إطالة عمر هذه الفرصة حتى الانتخابات النيابيّة عام 2026، والتي قد تنتج كتلة نيابيّة إصلاحيّة وازنة تعزّز مسار الثنائي عون-سلام الإصلاحي. يتطلّب ذلك تكرار «بروفة» التكليف مراراً في الأسابيع القادمة وانتزاع المزيد من الإنجازات الملموسة. الأهم ليس حجم هذه الإنجازات بل تكرارها، لبناء ديناميكيّة تصاعديّة. من الضغط باتجاه تشكيل حكومة اختصاصيين، إلى النجاح في إنجاز تعيينات إدارية لأكثر من 800 وظيفة شاغرة وفق معايير الكفاءة، وصولاً إلى تنفيذ إصلاحات ملموسة في وزارات خدماتيّة مثل الطاقة والاتصالات، والتصدي لصفقات مشبوهة في ملف إعادة الإعمار، وحماية التحقيق في انفجار مرفأ بيروت. يمكن خوض كلّ هذه المعارك من خارج المجلس النيابي الذي تهيمن عليه قوى النظام إذا احتاج الأمر، وقد تساهم في بناء ديناميكية تراكمية تُثبت فاعليّة نظريّة تحدّي النظام من الداخل والخارج، وتجدد إرث «17 تشرين» بطرق مبتكرة.