تعود أحجية الديموقراطية لتطل برأسها عند كل منعطف:
ماذا لو كان هناك رأي لا- ديموقراطي، رأي يدعو إلى العنف، وإلى القمع، وإلى عدم السماح بحرية إبداء الرأي الآخر؟ رأي يعترض على الديموقراطية ذاتها، فكيف تتعامل الديموقراطية معه؟ ديموقراطيًا أم بشكل غير ديموقراطي؟ هل أنّ شرطَ شروط الديموقراطية في أن تقبله كرأي لكن ترفضه كممارسة؟ بكلام آخر، هل تتسامح الديموقراطية مع الآراء التي تدعو إلى محاربتها، وإلى القضاء عليها من داخلها؟
من هذا المنطلق يمكن النظر في تدرّج إشكالات «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب»، لناحية توقيف نشاط موسيقي كحدث أول، والهجوم على صورة معروضة لقاسم سليماني كحدثٍ ثانٍ، وما تبعها من دفاع عن حريات وهمية، غائمة. آراءٌ تدعو إلى التمسك بمجموع حريات محور كان يعتدي، قبل يومين، على حرية الآخرين لناحية حقّهم بنشاط موسيقي. فالتناقض هو أن يتمسّك جمهور حزب الله وعموم المحور الإيراني بالحرية وينظر في ضرورة القضاء على كافة أشكال الرأي المخالف بتهم متفاوتة، لا تبدأ بالتخوين، ولا تنتهي باتّهام العمالة. التناقض هو أن يتمسّك بالحرية ويمارس الترهيب على كافة أشكال الاعتراض السلمي في مناطقه.
لقد شاهدنا اجتياح بيروت في 7 أيار، شاهدنا طريقة تقبّل الحزب لتمثيلٍ كاريكاتوري لنصرالله، وشاهدنا التسامح مع محال بيع الكحول... شاهدنا لوائح تحمل صورًا لما أطلقوا عليهم من باب التخوين «شيعة السفارة». لقد شاهدنا، فوق هذه وتلك، الهجمات المتلاحقة على مجموعات سلمية، واستباحة أمكنة الانتفاض خلال 17 تشرين 2019، ليس في ساحات الجنوب فحسب، وليس في ساحات الضاحية وبعلبك ومناطق نفوذ الحزب على وجه الخصوص، لكن في بيروت أيضًا. كما حفظنا ما طالني شخصيًا من تهديد ووعيد، بالتزامن مع الذكرى السنوية لاغتيال لقمان سليم حين تنشّقنا دخان انطلق من فوهة كاتم الصوت، وما رافقه من ضحكات هيمنت على خلفية المشهد.
هو ذاته الحزب الذي يتمترس خلف قول، لا علاقة لرأيه ولا لممارساته به. يعزل هذا القول عن تلك الممارسة، فينظر إليه وكأنه قول من دون سياق، قول من خارج كل سياق. ينظر إلى قول الحرية كما ينظر إلى حرية نشر صورة قائد عسكري كان له صولات وجولات في التنكيل بالحرية والديموقراطية التي تجلّت في ساحات الانتفاضة العراقية وفي ثورة الشعب السوري وفي الانتفاضات الإيرانية المتتالية… وفي النفوذ المتعاظم في لبنان.
غريب كمّ هذا التناقض بين المطالبة بالشيء وممارسة نقيضه. المطالبة بالسيادة والإصرار على الالتحاق بمحور، محور صاحب الصورة. المطالبة بالدولة وزعم محاربة الفساد، وممارسة كل ما يقوّض مداميك الدولة وما يكرّس الفساد ويعمّقه!
فأن تعزل شخصية مثل سليماني، لتحوّلها وكأنها صورة لكتاب أو مضمون، صورة لفرد أو عمل فني، أن تعزل صورته عن سياقه السياسي والعسكري المناقض للحريات ولكل مفاهيم ومفردات الديموقراطية، أن تنظر إليه لحظويًا، وكأنه أقنوم من أقانيم الحرية، أمر قائم على انفصام سياسي يتغذّى على أوهام إطلاقية لا- تاريخية معزولة عن سياق الهيمنة الإيرانية ونفوذها في لبنان.
الصورة الشخصية ليست كتابًا، وليست إشارة إلى غلاف ممهور بعنوان، إذ لا خلاف حول حرية الناس في إبداء الرأي. لكن، أن نعيد الأمر إلى سياقه قليلًا، لنكشف تناقض الحرية في وضع صورة لقائد عسكري في معرض للكتاب، قائد لا إنتاج فكري له ولا كتابات في التكتيك والاستراتيجية ولا نظريات في حرب العصابات. فالأمر ليس دعاية لكتاب، بل صورة لشخص يرافقه مجموعة تماثيل، صورة تؤكّد على استمرارية التناقض… صورة تعيد طرح السؤال المحوري: هل يتناسب وضعها حقًا في معرض بيروت للكتاب؟