تعليق كتب
وديع حمدان

محسن إبراهيم ومُريدوه: الدوران في شرنقة القادة «العظماء»

28 حزيران 2023

عرض الكاتب زهير هواري، في موقع بيروت الحرية، بتاريخ 3 حزيران الفائت، مقالاً عن سامي دورليان، والحوار معه. ودورليان هو أستاذ محاضر في جامعة السوربون، أصدر كتاباً بالفرنسية عن دار نشر «آرماتان» عنوانه: «محسن إبراهيم من خلال كتاباته - الأعمال المجهولة لقائد يساري لبناني». 

ويُشار في الكتاب إلى أنّ محسن إبراهيم ظلّ أميناً عاما لمنظمة العمل الشيوعي، على امتداد 50 عاماً، وكان الأمين العام التنفيذي للحركة الوطنية اللبنانية، وقد وافته المنيّة في حزيران 2020.

يكتب هواري في عنوان مقاله أنّ الكتاب والحوار مع مؤلفه هما «إعادة اعتبار وتقدير لمفكّر نقدي وقائد يساري لبناني عربي». ويبدو أن غاية مقال هواري تكمن في هذا العنوان تحديداً، أي الإعلان عن «إعادة الاعتبار» لشخصية إبراهيم المفتاحيّة والمحوريّة عنده، وعند رفاق آخرين... 

يُقدّم هواري مقاله بالتزامن مع إحياء الذكرى الثالثة على غياب محسن إبراهيم، واستذكاره بكلماتٍ عدة، من قبل رفاقه وأصدقائه، حيث تدور كلّ هذه الكلمات حول فكرة «تعظيم» القائد، من خلال تاريخه وممارسته وفكره، وهو ما يستحقّ التوقف عنده والتدقيق فيه لما يشوبه من مغالطات.

من المرتكزات الأساسيّة، التي تُبنى عليها صورة «التعظيم» لمحسن إبراهيم، عند رفاقه، هو ارتباط اسمه وعمله بأسماء قادة عظماء أمثال الرئيس المصري جمال عبد الناصر، والقائد الفلسطيني ياسر عرفات، والزعيم اللبناني كمال جنبلاط.

ومن المؤكد أنّ إبراهيم أحسن لعب دور المستشار المساعد والمنظّر لهؤلاء القادة، وما كانت لتلمع صورته لولا استفادته من وهج صور هؤلاء القادة وقوّة مواقعهم. فهو لم يكن صاحب مشروع مستقلّ بعيداً عنهم، وكان عمله السياسي مرتبطاً بهم أشدّ الارتباط.

في سيرة محسن إبراهيم الجدليّة والمتشابكة، يظهر بوضوح أنّ إبراهيم لا ينفكّ «ينقلب» في نهاية المطاف على «قائده أو زعيمه» في كل مرحلة، لا بل يمكن القول إنّه كان بالأحرى ينقلبُ على «ذاته»، بصفته المنظّر للزعيم وللمرحلة السالفة. 

فمن ابراهيم الداعية القومي مع عبد الناصر، إلى ابراهيم الماركسي الذي يبزُّ أقرانه الشيوعيين التقليديين الذين كانوا أخصامه سابقاً، إلى حامل لواء المقاومة الفلسطينية، بصفتها رافعة تحرّر الوطن العربي بعد هزيمة الأنظمة العربية أمام إسرائيل في 1967، إلى صاحب برنامج الحركة الوطنية اللبنانية، والمتورّط والقائد في سفينة الحرب الأهلية، للوصول إلى الحكم في لبنان.

اللافت أن إبراهيم الذي كان يُجيد الانتقال من مرحلة إلى أخرى، ما إن يطوي صفحةً من النضال، حتى يتحول إلى النقيض تماماً لما كانه قبلاً، فيصبح ببراعة قلَّ نظيرها، المنظّر للمرحلة الجديدة المعاكسة للمرحلة السابقة. هكذا هو ابراهيم، وكأنه لا يقبل أن يتفوّق عليه أحد في دور «المنظّر للمرحلة المستجدّة». هذا ما حصل مع الناصرية، ولاحقاً مع عرفات وجنبلاط. والانقلاب الذي درج عليه إبراهيم، كان يتم تحت مسمى النقد الذاتي الذي يُمثّل المرتكز الثاني، في صورة التعظيم التي تُرسم حول ابراهيم.

لكنّ المشكلة في النقد الذاتي، كما يقدّمه ابراهيم ويُعتبره رفاقه قوياً وجريئاً، أنه كان يأتي متأخّراً دائماً. والمدهش أن إبراهيم يعلن مسؤوليته عمّا مضى، وكأنه يتكلم عن شخص آخر لا تترتّب عليه أيّ مسؤولية. فهو كان قائداً لما سبق، ويعود قائداً لما لحق! فالنقد الذاتي معه يتمّ على طريقة «أنت الخصمُ والحكمُ»!

انتظر ابراهيم هزيمة حزيران 1967 حتى يقطع مع الناصرية، علماً أن علامات الهزيمة كانت بائنة بعد الثورة المصرية في العام 1952، في الاقتصاد والسياسة والفكر، عند عديد من اليساريين المصريين. 

وفيما يخصّ لبنان، انتظر إبراهيم 30 سنة على نشوب الحرب الأهلية حتى يعلن نقداً ذاتياً في العام 2005، في تأبين جورج حاوي، عن استسهال دخول الحرب الأهلية للوصول إلى الحكم في لبنان، وتحميل لبنان فوق طاقته، فيما يخصّ الوجود الفلسطيني المسلح.

تجدر الإشارة أنّ أصواتاً يساريّة عديدة حذّرت من دخول الحرب الأهلية، بينها الكاتب ياسين الحافظ . كذلك في العام 1990، فُتح نقاش في اللجنة المركزية لمنظمة العمل الشيوعي، أعلنت فيه مجموعة من الرفاق موقفاً نقدياً ضد دخول الحرب الأهلية، وكنت واحداً منهم، وقد رفض ابراهيم هذا النقد، مؤيَّداً من مُريديه، واعتُبِر أصحاب هذا النقد انهزاميين (راجع كتابي «أوراق من دفتر العمر/ سيرة مناضل يساري»). لقد انتظر ابراهيم 15 سنة حتى يعود ويتبنى هذا النقد، والأرجح أنّ ابراهيم انتظر كلّ هذا الوقت حتى يتخفّف من ارتباطاته مع أبو عمار ووليد جنيلاط.

لكن ما معنى أن يُعلن ابراهيم في نقده ارتكاب أخطاء قاتلة، حسب تعبيره هو، في الخط الذي انتهجته الحركة الوطنية اللبنانية، والمشار إليه آنفاً. هل هناك من معنى غير سقوط وفشل الممارسة التي كان على رأسها ابراهيم نفسه؟ وماذا يتبقى من هذه الممارسة، حتى تتمّ «إعادة الإعتبار» لصاحبها، كما يعلن الكاتب زهير هواري في مقاله، أم أنّ النقد الذي كان يعلنه إبراهيم هو على طريقة «عفا الله عما مضى»؟

كتاب دورليان، كما قدمه هواري، لا يخفي إعجابه وحماسته بابراهيم في أدواره المختلفة خلال مسيرته السياسية. ويستهدف الكتاب تقديم محسن إبراهيم لزملاء دورليان وطلابه، من الفرنسيين والفرنكوفونيين المعنيّين بالتاريخ السياسي والفكري العربي، فهو غير معروف لديهم.

لكنّ دورليان لا يناقش ولا يطرح أسئلة في المسيرة السياسية لابراهيم، بل يكتفي بمراجعة أكاديمية للنصوص التي أصدرها ابراهيم، وهذه المراجعة لا تصلح أن تشكّل أساساً «لإعادة الاعتبار» لسياسة يعترف صاحبها، ولو متأخراً، أن بعضها كان «قاتلاً»...

يقسّم دورليان حياة إبراهيم السياسية، كما يعرض هواري، إلى مرحلتين واسعتين امتدّتا إلى نحو 60 عاماً. في الـ30 سنة الأولى، كان ابراهيم تحت الأضواء، وهي المرحلة التي عاصر فيها ثورة عبد الناصر والمقاومة الفلسطينية وقائدها ياسر عرفات، وكذلك الحركة الوطنية اللبنانية وقائدها جنبلاط. أما مرحلة الـ30 سنة التالية، فيقول دورليان إنّ حضور ابراهيم كان خجولاً فيها، وهي المرحلة التي انكفأ بها إبراهيم عن العمل السياسي، وانطفأ بها بريق القادة الزعماء. على أنّ هذا «الخجل»، يتابع دورليان، لا يظهر في تقارير مؤتمرات منظمة العمل التي انعقدت طوال العقدين الأولين من القرن الحالي، إذ تتمحور حول شخصيّة «الأمين العام» التي لاحت له أقرب ما تكون إلى «الشخصيّة الروائية» منها إلى «الشخصيّة السياسية».

ويقول دورليان إنّ الإطراءات على دور الأمين العام «القيادي» و«الجهد الاستثنائي الملحوظ الذي بذله» قد لفتته، ما دفعه للتساؤل عن هذه السطوة للأمين العام على رفاقه: «هل كان رفاقه موافقين على هذه السطوة؟ أم جرى التنازل لها، بحكم ما اعتبروه خلاصة تجربة وريادة وإقناع؟»

في مسألة إعادة الاعتبار لقائد ما، هل نحن محكومون، بين التأليه والتقديس، وبين الشطب والشيطنة، أليس ممكناً التعاطي مع القادة على أنهم بشر، لهم مآثر ومثالب، يصيبون ويخطئون، وتتحكّم بهم موازين قوى من حولهم ومن معهم.

لا شكّ أن محسن إبراهيم شخصية قيادية مميزة، فهو محلل سياسي قدير، وخطيب مفوّه، ولعب دوراً مهماً في نشر الفكر اليساري والثوري في لبنان والعالم العربي، وكان له تأثير كبير في العمل الوطني اللبناني، وإطلاق جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية مع آخرين، ضد الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982.

لكن، في المقابل، لا يمكن إغفال مسؤولية محسن إبراهيم وقادة آخرين، على ضفّتَي اليمين واليسار، بزجّ لبنان في أتون حرب اهليّة، أكلت الأخضر واليابس، وقوّضت أركان الكيان، وهذا ما اعترف به هو متأخراً. كما لا يمكن رؤية المشروع الحزبي اليساري الذي كان ابراهيم على رأسه، سوى أنه مؤسسة خاصة به، انتهت بتوريث ما تملكه من عقارات وجريدة، إلى أبنائه وعائلته، وبتسهيل مسبق من مُريديه.

إن إعادة الإعتبار التي نحتاج إليها هي أن نحرص على إظهار الوجوه المضيئة في تجاربنا السابقة، وأن نمتلك الجرأة بإظهار جوانب الخلل فيها، سياسياً وتنظيمياً، وعدم التستّر عليها.

 إن القادة غير معصومين عن الخطأ والانحراف، ونحتاج معهم أن نكون أعضاء شركاء في القرار، وليس إلى مُريدين يصنعون منهم انبياء وآلهة مزيّفين.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
الاتحاد الأوروبي: قرار المحكمة الجنائية مُلزِم لكلّ دول الاتحاد
مقتل باحث إسرائيلي كان يبحث عن «أرض إسرائيل» في جنوب لبنان
قتيل بصواريخ حزب الله على نهاريا 
 أعنف هجوم إسرائيلي على الأراضي السورية أكثر من 68 قتيلاً في غارات تدمُر