لم يتّضح بعد مدى جديّة الكلام عن انسحاب سعد الحريري من السباق الانتخابي، لكنّ الأكيد حتّى اللحظة هو أن الرجل يمضي بالفعل وقته في إعادة ترتيب أعماله التجاريّة في الإمارات العربيّة المتحدة، وأنّه أعطى بالفعل تعليمات تقضي بوقف مسار تركيب اللوائح وإنعاش الماكينة الانتخابيّة في المناطق.
ثمّة من يضع الأمر في خانة التهويل بنهاية الحريريّة السياسيّة، أملاً في أن يؤدّي ذلك إلى شدّ عصب الجمهور وخلق حالة تضامن قد تفضي إلى عودته مُتوَّجاً بمناشدات الجماهير، على النحو الذي عاد فيه عبد الناصر ذات يوم عن استقالته بمشهد بطولي رغم نكسة 1967.
وفي المقابل، هناك من يقتنع فعلاً أن الحريري فقدَ فعلاً قدرته على التوفيق بين عوامل الضغط الخليجي، ومتطلبات الاستمرار في العمل السياسي في لبنان، وتحديداً من ناحية التعامل مع حالة حزب الله، هو ما أفضى إلى قراره الجدّي بالابتعاد عن المشهد الانتخابي.
لكن بمعزل عن جديّة هذا القرار، من الأكيد أنّ الحريريّة السياسيّة فقدت اليوم آخر ما تبقّى من دورها الوظيفي، كمشروع سياسي واقتصادي. ومن الأكيد أن فقدان هذا الدور لم يأتِ على حين غرّة مؤخّراً، بل حدث على مراحل منذ 2005 وحتّى اليوم.
حين انتهت الحرب الأهليّة اللبنانيّة سنة 1990، لم يدخل سنّة لبنان اتفاق الطائف بميليشيا ظافرة يدور حولها عصب طائفي مشدود، كحالة الحزب التقدمي الاشتراكي أو حركة أمل أو القوات اللبنانيّة، كما لم يبرز لهذه الطائفة بالتحديد رموز قادرة على انتزاع حصّة الطائفة من كعكة نظام ما بعد الحرب. كان بإمكان إضراب نقابي سريع، كإضراب سنة 1992، أن يفضي إلى استقالة رئيس الحكومة عمر كرامي، دون أن يملك كرامي فعلاً الغطاء المذهبي السميك الذي يحول دون ذلك.
هذه الثغرة تحديداً هي ما جاءت الحريريّة لتملأه. لكن وبخلاف سائر الزعامات التي جاءت من متاريس الحرب، لم تملك الحريريّة فعلاً في ذلك الوقت قوّة فرض الزعامة بعضلات الشارع. قوّة الحريريّة الفعليّة جاءت من كونها ولدت على تقاطع المصالح السوريّة الخليجيّة في ذلك الوقت، فكان رفيق الحريري نفسه حصّة السعوديين في نظام ما بعد الحرب الأهليّة، وكان وجوده يعبّر عن تقبّل النظام السوري لشراكة السعوديين في هذا النظام.
بشكل من الأشكال، كان وجود الحريري كامتداد للنفوذ السعودي، الموجود بمعيّة الهيمنة السوريّة، شبيهاً بحالة حزب الله التي عبّرت عن تناغم النظامين الإيراني والسوري في ما يخص الملف اللبناني.
جاءت نقطة ارتكاز الزعامة الحريريّة الثانية من امتلاكها مشروعاً اقتصادياً لمرحلة ما بعد الحرب الأهليّة، ومن امتلاك رفيق الحريري ما يستلزم من قدرات ماليّة لفرض هذه الرؤية. وهذا المشروع الذي قام منذ بداياته على طفرة المصارف والدين العام ونهضة المشاريع العقاريّة، مكّن الحريريّة من دخول حلبة تحاصص مغانم الدولة منذ التسعينات، لا بل من التحوّل إلى مايسترو توزيع هذه المغانم.
العام 2003، بدأت الحريريّة تفقد أوّل أدوارها الوظيفيّة، مع بدء الخلاف الخليجي السوري في مقاربة الملف اللبناني. وكان هذا الخلاف، بدوره، انعكاساً لاختلاف الطرفين في مقاربة ملفّات المنطقة بأسرها. وبحلول سنة 2005، تحوّل هذا الخلاف إلى طلاق كامل، بل مواجهة شاملة استعرت في مرحلة ما بعد اغتيال رفيق الحريري وتولّي نجله مسؤوليّة زعامة تيار المستقبل.
كان مسار المواجهة الذي دخلته الحريريّة، منذ ذلك الحين، مجرّد تمهيد لخروج سعد الحريري من السلطة العام 2011. فرغم محاولة تيار المستقبل في مرحلة من المراحلة الدخول إلى سوق «قبضايات بيروت»، أو تنمية نفوذه الأمني من خلال شعبة المعلومات، ظلّت الحالة الحريريّة مقلّمة الأظافر مقارنةً بخصمها في ذلك الوقت، أي حزب الله. ولهذا السبب، بدت الحريريّة عاجزةً عن لعب أيّ دور خارج نطاق التفاهم الإقليمي.
لاحقاً، حاول الحريري تغيير قواعد اللعبة من خلال التسوية الرئاسيّة التي أراد من خلالها العودة إلى السلطة، وفق تفاهمات تسمح بتعويم الحالة الحريريّة كما جرى في التسعينات. لكن، مرّة جديدة، لم يتمكّن سعد من تخطّي دور تياره الوظيفي الذي لا يمكّنه من امتلاك أيّ أوراق في السياسة بغياب الغطاء الخليجي. وهكذا، كان عدم الرضا الخليجي عن تلك التسوية نقطة الضعف التي عانى منها الحريري منذ وصول عون إلى سدّة الرئاسة وحتى استقالة الحريري بعد اندلاع ثورة 17 تشرين الأول.
اليوم، لا يسمح الموقف الخليجي للحريري بلعب أيّ دور سياسيّ يتماهى مع سطوة حزب الله في الداخل. ولا تسمح المعادلات الداخليّة له بدخول السلطة دون التماهي مع هذه السطوة، وهو ما يمثّل أزمة وجوديّة للحريريّة التي قامت منذ البداية على معادلات تقاطع المصالح الإقليميّة. وفي الوقت نفسه، بات النموذج الاقتصادي الذي نمت الحريريّة بالتوازي مع نموّه، من الماضي، بعدما انهارت فكرة جمهوريّة العقار والمصرف. ففقدت الحريريّة بذلك نقطة ارتكازها الأخرى: المشروع الاقتصادي الذي حملته.