هناك متظاهرة اليوم على جسر الرينغ، عمرها عشرون عامًا تقريباً، أي هي من مواليد 1999 أو 2000. قُتِل رفيق الحريري وهي بالرابعة أو الخامسة من عمرها، لا تتذكّر الكثير من هذه الحادثة، إلا عدّاداً متوقفاً عن العمل أوّل شارع الحمرا. لا تعنيها لحظات كتظاهرة 14 آذار أو حرب تموز أو 7 أيار، كما أنّها لا تفهم لماذا ما زالت تلك اللحظات تثير عواطف حادّة عند أهلها.
كبرت تلك المتظاهرة في ظلّ ثنائيّ حاكم، متحالف في حكومات وحدة وطنية ومتصارع في الشوارع وعلى شاشات التلفزيونات. على الأرجح، لا يهمها تاريخ زعامات تلك الحكومات. فهي لا تتذكر أن سمير جعجع كان في السجن أو ميشال عون في المنفى. لا تتذكر كيف أحرق نصر الله البارجة أو ورث الحريري أباه الشهيد. لا تربطها أي حمولة عاطفية بهذا النظام، ولا بحربه القديمة التي ترى بعض ملامحها في عيون أهلها كلما سمعوا إطلاقًا للنار.
كبرت في تلك الغربة السياسية فيما كان البلد دائماً على مسار انهيار تدريجي، على كامل الأصعدة. البلد ينهار من دون أي ترجمة سياسية. الحياة تتغيّر من دون أي ترجمة سياسية. السياسة عالم الجمود. هي وصلت إلى الشارع في 17 تشرين، وبدأت الحياة تعود إلى السياسة.
ليس بعيداً من تلك المتظاهرة، يقف شاب حزبي يراقب جسر الرينغ.
هو بعمرها، وهو مثلها لا يتذكر تلك الأحداث. ولكنّه عاش تلك المرحلة من داخل حزبه، تحت وطأة حمولة عاطفية لم تجد منفذًا سياسيًا على مدار السنوات. خاض كامل معارك حزبه، من الانتخابات الجامعية إلى اشتباكات الشوارع مع خصومه الحزبيين وصولًا ربّما إلى حروب إقليمية. ولكن بعد كل جولة، كان الوضع يعود إلى نقطة الصفر: تحالف مع الخصم في حكومة وفاق وطنية، تحالف مع «الأخ» العدو، مع قاتل الأب، مع «الخائن الإسرائيلي». فيضطر إلى قمع هذا الكره الذي يبقى من دون ترجمة سياسية.
ولكنّ الشاب ليس محصورًا بحزبه. فقد بات يدرك أنّ حزبه لم يعد يقنع أحدًا من خارج دائرة رفاقه الحزبيين. فمن الصعب إقناع أحد بأنّ حزبه المشارك بالحكومات لسنوات غير مسؤول عن الوضع. حزبه في الحكومة، لكنّ الشاب يشعر بأنّه في المعارضة، وأنّ الخصم هو المسؤول عن الوضع حتى ولو هُزم في السياسة. ثمّ يتذكر أن هذا الخصم هو حليفه، فيعود إلى نقطة الصفر.
كان الشاب الحزبي يدور حول حزبه، حين وقعت حادثة الثورة. من جهة، حاكت الثورة إحساسه المعارض ونقده للأحزاب الأخرى. ومن جهة أخرى، منعه أبوه الحزبي من المشاركة، فبات التظاهر أقرب إلى خيانة للنفس. تحوّلت الثورة إلى كابوس بالنسبة له، تفضح يوميًا الغضب المختزن داخله بسبب تناقضات حزبه. وبعد أكثر من 40 يوماً من هذا الفضح، بات الغضب يستملكه، وأصبحت الثورة مصدر انزعاجه. فجاءت الإشارة من الأب الحزبي وانكبّ الشاب على المتظاهِرة. بات يمكن له المشاركة في الثورة، وإن كعدوّها. يشارك ليعود إلى حالة الغضب التي تربّى عليها، ليعود إلى مرحلة ما قبل قتل أبيه الحزبي.