في أسبوع واحد، رفع النائب السابق محمد الأمين عيتاني دعوى ضدّ منصّة ميغافون بتهمة القدح والذمّ بسبب تقرير حول الصفقات المشبوهة التي حازت عليها شركة «إنكريبت» من وزارة الداخلية، طالباً السجن لمدير ميغافون ولرئيس تحريرها. كما رفع نجل النائب عيتاني، هشام، دعوى ضدّ الإعلاميَّيْن فراس حاطوم ونانسي السبع بسبب التحقيق الاستقصائي الذي أعدّه حاطوم حول احتمال وجود ثغرات في شركة سيرتا التي يملكها عيتاني الابن، أدّت إلى وصول داتا اللبنانيّين، من بصمات العين واليد إلى أرقام السيارات، إلى الموساد الإسرائيلي الذي استخدمها في عمليات القتل الجماعي والفردي في عدوانه الأخير على لبنان.
تستحقّ هاتان الدعويان اللتان رفعهما الأب والابن التوقّف عندهما، لا بسبب خطورة الملفّات المطروحة وحسب، لكن أيضاً لأنّ القضية تتجاوز السيّد هشام ووالده أو السيّد محمد الأمين وابنه، لتعطي لمحةً عن هذا النوع من رجال الأعمال اللبنانيّين الذين لا يعرفون من الأعمال إلا ممارسة النهب المنظّم للبلد، ثمّ ممارسة المزيد من النهب، بالشراكة الكاملة مع المافيا السياسيّة.
متعهّد جمهوريّة الموت
ماذا يمثّل النموذج الذي يقدّمه عيتاني الأب وابنه المدلّل؟
- نهب الدولة: الحصول على صفقات من دون المرور بقنوات الرقابة الرسميّة، وذلك بالتواطؤ مع الراعي السياسي (نهاد المشنوق في هذه الحالة). أصرّ وقتها وزير الداخليّة والبلديات نهاد المشنوق على إجراء الصفقة عبر وزارته، لا عبر إدارة المناقصات كما ينصّ القانون. وأصرّ المشنوق لسببٍ ما، على دمج عدّة مناقصات في مناقصة واحدة، لتلزيم شركة واحدة: إصدار رخص السوق، ودفاتر السيّارات، ولوحات السيّارات، ومكننة تسجيل السيّارات. سرعان ما تبيّن أنّ هدف هذه «الطبخة» الغريبة هو التلاعب لتفصيل شروط المناقصة بما يفضي إلى فوز عارض محدّد، هو شركة «إنكريبت» المملوكة من هشام عيتاني. وبالفعل، تمّ توقيع العقد مع الشركة عام 2015.
كان يمكن لهذا النهب أن يمرّ مرور الكرام كجزء من الفساد المعتاد في لبنان لو لم يُصَب البلد بانهيار ماليّ. لكن حتى هذا الانهيار لم يُثنِ هذا النوع من رجال الأعمال عن المضيّ في ابتزاز الدولة، كما حصل في ملفّ النافعة. فبعد استفادته لمدّة ثماني سنوات من هذا العقد المشبوه، قرّر عيتاني «خطف» النافعة وإقفالها عام 2023، وامتنع عن تسليم الداتا وكلمات السرّ للدولة اللبنانيّة. بقيت النافعة مغلقةً لفترةٍ طويلة بسبب إصرار عيتاني على خضوع الدولة لرغباته، وإجبارها على سداد مستحقاته بالدولار النقدي، لا بالليرة اللبنانيّة. - الشراكة مع المافيا السياسيّة: تزامن توسُّع إمبراطوريّة عيتاني داخل الدولة مع وصول نهاد المشنوق إلى وزارة الداخليّة. سبع مناقصات حصلت عليها شركة «إنكريبت» العيتانيّة في العام نفسه الذي تسلّم فيه المشنوق الوزارة، من بينها، صفقة الجوازات. ففي عام 2014، وقبل سنة واحدة من توقيع عقد النافعة، منح المشنوق «إنكريبت» عقداً لتوفير جوازات السفر البيومتريّة بالتراضي ومن دون أي مناقصة. ناهزت قيمة العقد الـ140 مليون دولار. بعد أربع سنوات، مُنح عيتاني عقدًا آخر، لتأمين جوازات السفر البيومتريّة أيضًا، بقيمة 14.64 مليون دولار. وقبلها بعامين، كان عيتاني الصغير قد حصل على لفتةٍ خاصّة من مجلس الوزراء، عندما تمّ تحويل 2.41 مليون دولار من احتياطي الموازنة إلى شركته، لقاء عقد بالتراضي، ومن دون مناقصة، لإصدار مليون تصريح إقامة.
لكنّ الشراكة مع المافيا السياسيّة لا تقتصر على المشنوق. فصفقاتٌ كهذه ما كانت لتمرّ إلا برضا سائر الدُّونَات في الجمهوريّة. وقد سبق لأحد النوّاب السابقين في التيار الوطني الحر أن تناول ملفّ العيتانيَّيْن بقوله: مركبينها مع الكلّ، خود مصاري وسكّر تمّك. - امتهان الفساد حتى لو أدّى إلى القتل: لم تدخل إمبراطوريّة هشام وأبيه في شراكةٍ عاديّةٍ مع المافيا السياسيّة. إنّها شراكة من النوع الذي يُثبت أنّ الفساد يقتل في آخر المطاف. فالراعي السياسي لهذه الشراكة، نهاد المشنوق، ليس مجرّد وزير سابق، بل مسؤول مدّعى عليه في ملف تفجير المرفأ الذي دمّر أجزاء واسعة من المدينة وقتل المئات. أمّا أحد أفرُع الإمبراطوريّة، شركة سيرتا، المملوكة من هشام عيتاني، فمتّهمة بخفّة التعاطي مع داتا الشعب اللبناني، حسب التحقيق الاستقصائي الذي أعدّه الصحافي فراس حاطوم، والذي أشار إلى إمكانيّة استخدامها من قبل الموساد الإسرائيلي، لاختراق شبكة البايجرز التي يستعملها حزب الله.
شراء الصمت وتسخير القضاء والعنصريّة
أمام فداحة التُّهَم التي كشفتها تحقيقاتٌ وتقارير إعلاميّة، ارتأى الأب وابنه المدلَّل استخدام شتّى أنواع الضغط على الإعلاميّين.
أولًا، الرشوة. فبحسب فراس حاطوم، استعان هشام عيتاني بوسيطَيْن، لمحاولة شراء صمته ببدل مالي.
ثانيًا، تسخير القضاء. لجأ العيتانيّان إلى القضاء لقمع حرية التعبير ومنع ارتفاع الأصوات ضدّ صفقاتهما المشبوهة.
وعندما بدأت تبعات هذه الصفقات بالظهور في المجتمع اللبناني، لا سيّما من خلال الانهيار الاقتصادي، قام محمد الأمين عيتاني بما يقوم به عادةً هذا النوع من رجال الأعمال: غسل يديه من الوضع الذي آلت إليه البلاد، وألقى اللوم على الفئات الأضعف في المجتمع. هكذا وجّه عيتاني الأب، بصفته عميداً لـ«اتحاد جمعيات العائلات البيروتية»، كتاباً إلى محافظ مدينة بيروت، تباكى فيه على شارع الحمرا الذي نكبه الانهيار الاقتصادي الذي تسبّب به عيتاني وأمثاله من ناهشي الدولة، ليلقي باللوم على النازحين السوريّين. فوفق عيتاني الأب، تحوّل شارع الحمراء إلى سجن كبير تقطنه أفواج من النازحين السوريين وغير السوريين، التي جعلت من أرصفته متجراً، ومن أرضه مسرحاً، ومن زواريبه ملهىً ليلياً للفقراء… شارع الحمراء أيضاً أصبح حماماً ومرحاضاً لسائر هؤلاء النازحين.
لقد سبق لجهاد العرب أن حصل على لقب «متعهّد الجمهوريّة» بسبب قربه من آل الحريري واحتكاره الحصّة الأكبر من تعهّدات الجمهوريّة. ومع خروج الحريري من الحُكم، استدعي العرب إلى التحقيق وبكى أمام الكاميرات، قبل أن يُدرَج على لائحة العقوبات الأميركية بقضايا فساد. لكن، بخلاف جهاد العرب، ليس محمد الأمين وابنه هشام وراعيهما السياسي مجرّد متعهّدين في جمهوريّة الفساد، بل تهمتُهم أنّهم متعهّدون في جمهوريّة الموت، ومصيرهم لا ينبغي أن يكون أقلّ من السجن.