بعد ثلاثة أشهر من الثورة، في خضمّ استعادة الذروة، تمّ اعتقال عدد غفير من المعتصمين بين ليلة وضحاها، أغلبهم لا يزالون في ثكنة الحلو. جرّب عناصر الأمن «تربيتهم» ليكونوا عبرةً لمن اعتبر. وفي محاولة لوصم بعضهم بالزعرنة وإثبات «الجريمة»، ناوش عناصر الأمن لفرز الثائر الصالح من الطالح، فهم لن يحاسبوا مَن تثبت «براءته» من أعمال الشغب.
لكنّ عناصر الأمن ليسوا وحدهم مَن فاضل بين الثوّار، بل طال الإسهالُ الخطابي ناشطين من المجتمع المدني. وفي حين أنّ بعض هؤلاء مهرِّجون قدّموا أنفسهم كممثّلين للثورة في بداياتها فنبذتْهم الساحات، انتظر آخرون، وهم مدراء تنفيذيّون لمؤسّساتٍ إقليميّة، هذه اللحظة المفصليّة لينصّبوا أنفسهم ناطقين رسميّين باسم الثورة «الحقيقيّة».
والواقع أنّه لا يمكن لأشخاصٍ تكوّن وعيهم السياسي، إن كان لنا أن نسمّيه كذلك، في كنف الرفاهية أن يقدّموا المشورة والاستشارات للمضطهدين. يرفض هؤلاء الاعتراف بمكانتهم المحميّة بعنف الدولة، بكونهم متواطئين فاعلين ومستفيدين مباشرين من الهرميّات الاجتماعيّة التي تستنزف غيرهم. إحراق المصارف وكسر الباركميتر وطرد النوّاب من المساحات العامّة وتسكير الطرقات، ليست خروجًا عن الطَّوْر الثوري ولا أخطاء تكتيكيّة يجري التنازل عنها في خطابات اعتذاريّة وتخوينيّة تُفاضِل بين الثوّار، وتطالب بالسلميّة.
السلميّة، في تعريفها، موقف امتيازيّ للطبقتَيْن المتوسّطة والعليا، لأنّها، في جوهرها، لا ترى العنف المحتّم والمسبق، ذلك العنف الذي لا مهرَب منه سوى تحطيم النظام القائم كلّيًا والذي تولد إليه الطبقات المسحوقة من الهرم الاجتماعي. فيقول الطرح السلمي أنّ الجلوس المهذّب في قاعات انتظار المصارف لساعاتٍ يوميًّا كفيلٌ بدفع إيجار البيوت والمدارس، ويقول إنّ الحلّ لبطون الجوعى هو الإضراب عن الأكل. أليس الإضراب سلميًّا ولا يعتدي على ممتلكات الغير؟
يطالبنا هؤلاء بألّا نحارب مَن يُحاربوننا. فمتى قتلتْنا يد النظام أو سياسات المصارف أو محسوبيّة الزعماء أو سلاح الشبيحة، يجب أن نكون عزّل ومتمدّنين. وإلّا، لن يبكينا السلميّون في الجنازات، ولن نكون شهداء للثورة. بل سينشرون كتيّباً لإتيكيت الثورة ويقدّمون ورشة تمكين ناهية آمرة.
التاريخ يكتبه المنتصرون، أولئك الذين يحميهم عنف الدولة ويوزّعهم على مراتب السلطة. والتاريخ يُكتَب استباقيّاً أيضاً، إذ يستعجل الانتهازيّون بإقصاء مَن يضعون أجسادهم في ميادين الثورات معرِّضين أنفسهم للاعتقالات والترهيب، في محاولةٍ لحماية فوقيّتهم الأخلاقية.
ليس انتصارًا ثوريًّا ذاك الذي يُبقي على موازين القوى الراهنة كما هي، فيضع المصارف فوق الناس، ورأي «الخبراء» فوق فعل الثوّار. الشارع وحده ينتقي ثوّاره ويُملي الاستراتيجيّات. لِنُسمِّ الأشياء بمسمّياتها، لكي نضع الحمل على الأطراف المسؤولة في الظلم الذي نشهده. مشكلتنا ليست مشكلة «فقر»، بل توزيع غير عادل للموارد، والجميع يعرف مستحقّاته وسينتزعها بأنيابه.
نحن نصل إلى الحرّية «السلبية»، أي تلك الحرّية التي نطالها متى نُسلَب كلّ شيء. هي ليست الحرّية التي يتشدّق بها المتحاذقون، تلك التي علّمونا أنها متناهية أو فانية، تُكال بوحدات قياس وهميّة، تحصرها في مساحة ضيّقة بين الشخص والآخر. فيقال لنا إنّها «تنتهي حين تبدأ حرّية الآخرين». هؤلاء الآخرون المنزعجون كأنّها موضوع تقاسم أو تنافس.
على الثكنات، يقال للمتظاهرين المطالبين بتحرير المعتقلين أن يلتزموا الهدوء لأنّ الجيران انزعجوا. المعادلة واضحة: شراشف البورجوازيّة النائمة ولا حريّة الثوار. فالعنف الأشرس يكون صامتًا أو نائمًا، لأنّه هيكليّ، لا يحتاج إلى الترسانة وإن كان يمتلكها. فثورتنا ليست سلميّة، وانشقاقنا هو محاولات نجاة ودفاع عن النفس ولقمة العيش. حرّيتنا الآتية التّي يبنيها الشارع تتّسع لنا جميعًا، وتأتي متى لا يبقى لنا ما نخسره. وما رح نتربّى.