من الصعب أن ينكر المراقب الدور الحقوقي الريادي والإستثنائي الذي إضطلعت به نقابة المحامين في بيروت منذ أن بات ملحم خلف نقيبًا لها. ومن الصعب أيضًا أن ينكر أي شخص حقيقة أن وصول خلف والدور الريادي الذي أعطاه للنقابة كانا الترجمة النقابيّة للتحوّلات الجذريّة التي أطلقت عنانها إنتفاضة 17 تشرين. لذلك، من المجحف أن ينطلق أي نقد للمبادرة التي أطلقتها نقابة المحامين من تشكيك بدور النقيب أو من تساؤل حول أهداف خبيثة ومبطّنة، على الطريقة التي رد بها البعض على المبادرة.
لكن مع ذلك، يمكن القول إن المبادرة إحتوت على الكثير من النقاط الإشكاليّة التي تستحق النقاش الهادئ والبنّاء، أملاً في أن تلعب المبادرة خلال المرحلة المقبلة الدور الإنقاذي الذي أرادته نقابة المحامين منها.
في الشكل
لم يكن مفهومًا إصرار النقيب على وضع «العائلات الروحيّة» في طليعة الجهات التي شاركته صياغة وإطلاق الدعوة، خصوصًا أن إدراجها في لائحة الداعين يعني تلقائيًّا التسليم بأثرها ودورها في الحياة السياسيّة اللبنانيّة. كما لم يكن مفهومًا المرجعيّة التي إستند إليها النقيب للتواصل مع الطوائف التي ورد اسمها في القائمة. فهل إستند إدراج «الطائفة الشيعيّة» في القائمة على التواصل مع المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى؟ وهل إعتبر النقيب أنّ المجلس يمثّل في هذه الحالة عموم العائلة الروحيّة الشيعيّة في البلاد؟ وكذلك الأمر بالنسبة إلى باقي الطوائف، حيث يدخل المرء في غابة من المرجعيات والرموز الدينيّة والمذهبيّة الرسميّة وغير الرسميّة بمجرّد الحديث عن «العائلات الروحيّة».
كما اختارت النقابة إدراج ثماني جامعات ضمن قائمة الجامعات التي شاركته الدعوة إلى المبادرة وصياغتها، علمًا أن المقصود بالجامعات هنا ليس سوى إدارات هذه الجامعات، فيما غابت عن القائمة أي تجمّعات تمثّل أساتذة هذه الجامعات أو طلّابها. في الواقع، يمكن القول أن أي مبادرة من هذا النوع كان ينبغي أن تسعى لإكساب مشروعيتها الشعبيّة من إشراك الأجواء الأكاديميّة والطلابيّة في صياغة المبادرة، قبل أن تسعى لانتزاع المشروعيّة من إداراتها. مع العلم أن ثمّة إستقطاباً مطلبياً ونقابياً معروفاً لدى الجميع بين الإدارات من ناحية والأساتذة والطلاب من ناحية أخرى، وهو ما يعني أن وجود الإدارات لا يعني بالضرورة تمثيل الطلاب والأساتذة في مناقشة المبادرة وصياغتها. وفي كل الحالات، إذا كان هناك من خصوصيّة أو أهميّة معينة للدور الذي تلعبه الجامعات في البلاد، فهو يكمن تحديدًا في الدور الذي يلعبه طلابها وباحثوها وأساتذتها، لا إداراتها.
في المضمون
تحدّد المبادرة الإنقاذيّة معالم الخطة الماليّة الاقتصاديّة التي تريدها، والتي ركّزت على عناوين فضفاضة وواسعة جدًّا مقارنة بحجم وعمق الأزمة القائمة اليوم. بل ويمكن القول، أن ما تضمّنته المبادرة من عناوين ماليّة كان غامضًا إلى حدود إمكانيّة تبنّيها من أي حزب سياسي أو حتّى جمعيّة المصارف أو حاكم مصرف لبنان نفسه دون حرج. فاقتصر الكلام على تعزيز الحماية الإجتماعيّة وإقامة شبكات أمان على مستويات أربعة: التربية والصحة والغذاء والشيخوخة. أمّا الإصلاحات، فليست سوى وقف الهدر ومواجهة أزمة الكهرباء والبنية التحتيّة وإصلاح مسار المناقصات… ومواجهة الأزمة الماليّة!
تكمن مشكلة الغموض في هذا القسم بالذات، وتحديدًا في كون الأزمة الماليّة تمثّل اليوم التحدّي الأساسي الذي تدور حوله جميع القضايا والإشكاليّات. عمليّاً، تقف البلاد اليوم أمام خيارات متناقضة، سيؤدّي كلّ منها إلى تحولات مجتمعيّة وطبقيّة كبيرة وحساسة، فيما لا تقدّم هذه المبادرة أي جديد بإستثناء الكلام العمومي الذي تردّده جميع الأحزاب والقوى السياسيّة اليوم.
أمّا في السياسة، وبعد قيام حكومة إختصاصيين مستقلة بصلاحيات تشريعيّة محدّدة ولفترة زمنيّة معينة بتطبيق الإصلاحات الماليّة التي تتحدث عنها المبادرة، تدعو الورقة الإنقاذيّة إلى إجراء إنتخابات نيابيّة خارج القيد الطائفي، مع مجلس شيوخ وفقًا لما ينص عليه الدستور. وهذه الخطوة تهدف إلى إعادة تكوين السلطة والعبور نحو دولة المواطنة وجمهوريّة الإنسان. عمليًّا، يمكن القول أن هذا الجزء من المبادرة إختصر كافة أزمات النظام السياسي اللبناني في مشكلة واحدة، وهي طائفيّة قانون الانتخاب. مع العلم أن الورقة قدّمت نفسها منذ البداية كورقة إنقاذيّة، فيما لا يبدو أنّها قدّمت أي إجابات على أكبر مشاكل النظام السياسي: من طبيعة النموذج الإقتصادي إلى سلاح حزب الله وطائفيّة النظام التي تتجاوز مسألة قانون الإنتخاب وغيرها.
ببساطة
جاءت صيغة المبادرة في الشكل على مبدأ الإجماع العابر لمكونات النظام نفسه: من ضمّها لعائلات روحيّة هي جزء لا يتجزّأ من النظام الذي إنتفض عليه اللبنانيون، إلى إدارات الجامعات التي تصدّرت مشهد تسليع التعليم طوال السنوات الماضية، وصولاً إلى بعض النقابات التي لعبت أدواراً سياسيّة إشكاليّة في قطاعاتها. أما النتيجة، فكانت مضموناً لا يقدّم شيئًا على مستوى أزمة البلاد الماليّة، ولا يقدّم الكثير على مستوى أزمتها السياسيّة.
أخطأ البعض في التهجّم القاسي على نقيب المحامين، وتحديدًا عبر إتهامه بالتآمر مع أقطاب النظام والتلطّي خلف شعارات الثورة لهذه الغاية. لكنّ بعض مضمون المبادرة الفضفاض والعمومي، وتزامُن هذا المضمون مع مبادرات بعض أقطاب النظام، كدعوة نبيه بري لمناقشة قانون الإنتخاب، سهّل مهمّة الهجوم القاسي على المبادرة نفسها.