يوميات طوفان الأقصى
عبير بشتاوي

من الناصرة إلى غزّة

محاولة مواساة فاشلة

9 أيار 2024

لم تنتهِ الحرب بعد.
وما زال أصدقائي وأصدقاء أصدقائي يقبعون في سجون من دون تهم، مع أحكامٍ قابلة للتجديد. فينتابني شعورٌ بأنّ السجن أصبح عالماً صغيراً، فحتّى صديق صديقي الذي لا أطيقه، موجودٌ هناك.

لم تنتهِ الإبادة بعد، ولم تتوقّف التنبيهات من حَولي: «تحكيش»، وكأنّ السلطة توزّعت ليصبح كل من حولك مسؤولاً ومتسلّطاً لإسكاتك.

لم تنتهِ الحرب بعد وما زلت أبحث عن عملٍ منذ أشهر، فعملي الوحيد كباحثة مُساعِدة في الجامعة لا يكفي لتسديد أقساط الجامعة.

لم تنتهِ الحرب بعد، وما زلت أتنقّل بالباصات والقطارات بين الناصرة وحيفا وتل أبيب، أسمع في كل نشرة إخبارية «سننتصر معاً» بلغةٍ ليست لغتي.

لم تنتهِ الحرب بعد، وما زال زميلي السابق الغزّي يطمئنّ على أحوالي قبل أن أتجرّأ على الاطمئنان على أحواله.

عن هذا الصديق بالذات: انتشرت قصّة ابنه تَيم، مع توثيق مقطعٍ مصوّرٍ يظهر فيه وهو يمسك يد جدّته التي تحوّلت إلى جثّة هامدة، بعدما قنصَها الجنود الإسرائيليون في شمال القطاع. كان تَيم يلوّح بعلمٍ أبيض بيده الأخرى.
لا يزال تَيم في رفح، بينما أبوه وأخوه وأمّه في الشمال ولم يستطيعوا حتّى اليوم توفير سعر التنسيق للخروج إلى مصر، لعائلتهم المكوّنة من 4 أفراد. وما زال يوسف، والد تَيم، يحمد الله على الحال، رغم الحال.

لم ينتهِ التجويع بعد، وما زلتُ أحاسب نفسي كلّما أمسكتُ بالملعقة، أو بالشوكة، وعند كلّ رشفة قهوة. كل مرّة، أخجل من عَيْشي حياة «طبيعية». مع ذلك، لم أنَم يوماً واحداً من دون قلق أو ألم، منذ السابع من أكتوبر. خسرتُ الكثير ممّن حَولي، ولم أخسر شيئاً.


لم أزر رام الله منذ آب الماضي. فرّقت إسرائيل أصدقاء ينقضي نصف عمرهم قبل أن يلتقوا للمرّة الأولى يتفرّق الفلسطينيون جغرافياً، وتفرّقهم السلطات والقوانين والحواجز العسكرية ومحاولات كَيّ الوعي الإسرائيلية. يتفرّق أبناء الشعب الواحد، وتُنتج أفكاراً مغلوطة وعنصرية بين الفلسطينيين في الداخل المحتل والفلسطينيين في الضفّة الغربية. وقد يكون من أصعب الأمور أن يكوّن هؤلاء صداقات. . أغلقت حواجزها العسكرية علينا، قيّدتنا، وأوصَدَ قلقُ الأمّهات الأبواب علينا.

حتّى طعم الشاي بالنعناع في باب العمود بدا مختلفًا. لم نقوَ حتّى على مناقشة ما إذا كان الشاي بالمريمية أفضل. قضينا العيد أمام شاشة التلفاز نقرأ كل العواجل، واقتصر العيد هذه المرّة على فنجان قهوة فقط، وصلة رحم. لم نفكّر مليّاً إلامَ ندعو عند الصلاة في المسجد الأقصى، فدعوتنا واحدة موحّدة كما نوحّد الله، وكان منّا الكثير هناك، أكثر من أي مرّة شهدتها من قبل. ربّما لوجود غصّة تحاول الخروج على هيئة سجودٍ أو ركوع.

الطلبة الإسرائيليون في الجامعة يحملقون بي لأنّني أستطيع أن ألفظ الحروف كما هي: «حاء» و«خاء» و«راء»، من دون أن أعوج لساني. ولا أتأثّر. لم أتحدّث معهم يوماً لكنّهم يعرفونني جيّداً، ويحفظون اسمي. فأنا، تحوّلت لأصبح «العربية» الوحيدة في أماكن عديدة وجديدة.

فقدتُ قدرتي على الإنتاج فنّياً. كل علاقاتي ومحاولاتي وإيماني باءت بالفشل. لم أخَف يوماً من الحديث، وتكلّمتُ عندما صمتت الغالبية، لكنّي لم أفعل شيئاً يستحقّ الذكر.

تنزل دموعي بسهولة كلّ يوم. كما وصلتني تهديدات بالوعيد والنفير الآتي، فاضطررتُ أن أقيّد خصوصية صفحتي الانستغرامية، شبّاكي الوحيد للعالم.

وإن كنتَ تشعر أنّ هذا النص هو بلا هدف، وبلا مغزى، وبلا فائدة، فلأنّه فعلاً كذلك. لكن شجّعني سالم من خيمة نزوحه على الكتابة، ولهذا أكتب. هذه هي حياتنا نحن، هناك، في ظلّ المجازر والتجويع والإسكات.

ثم ألاحظ بعض التعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي، عن «عرب 48»، مع أنّي أمقت هذه التسمية. ما زلنا مُحاصرين فكرياً، وما زال أغلب العرب يجهلون من نحن. وما زلت، بالمقابل، أتعرّض للتنمّر عندما أستخدم الكلمة العربية لـ«الشاحن»، وليس البديل العبري لها. تجذّرت المفردات العبرية في لاوعينا ووعينا، حتّى بُترَ لساننا.

حتّى اليوم، لم أستطع كتابة رسالة تعزية ذات قيمة للصديق محمود البنا، بعدما فقد والده.
ولا استطعتُ مساعدة أخت صديقتي الفيسبوكية التي تعاني من الاندومتريوسس، كي تغادر غزّة لتتلقّى العلاج في الخارج.

لم أفعل شيئاً، سوى الحزن. ولا ينفع الحزن أحداً يا أنا. فمتى تنتهي الإبادة؟

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
لحظة تفجير منازل في بلدة طير حرفا الجنوبية
استشهاد 5 مُسعفين في اعتداءات إسرائيلية مباشرة على فرق الإنقاذ 
المجر تتحدّى المحكمة الدولية: لن نعتقل نتنياهو
صامد في الفان رقم 
22-11-2024
تقرير
صامد في الفان رقم 
هذه الدول ستعتقل نتنياهو إذا دخل أراضيها
غارتان على أطراف الشياح- عين الرمانة