الداعيات إلى الذهاب إلى ما هو أبعد مزعجات حقاً. يَظهرنَ وكأنهنّ يستكثرنَ على ضحايا الاعتداءات الجنسية امتلاك السردية والسيطرة على مجرى الأمور كما يرينَه مناسباً لفترةٍ مديدة. صحيح. لكن فاتنا أنّ الداعيات هنّ أيضاً ضحايا أو ناجيات، فلنسمِّهنّ ما شئنا، ومنهنّ خبيرات، بإرادتهنّ أو مُكرهات.
فاتنا أيضاً أنّ الكثير من الناجيات أصبحنَ في السنوات الماضية مرئيّات- والفضل للحركات النسويّة- وأنّ شكل مسار الفضح والمحاسبة الذي لجأنَ إليه، يصحّ اليوم القول إنه بات مكرّراً، ولو اختلفت بعض تفاصيله بين حالةٍ وأخرى، حتى أصبح من الصعب اقتفاء آثار نقطة انطلاقته في بلادنا، وتحديد المُبادِرة الأولى، وهذا أمر جيّد.
لا شكّ في أنّ هذا المسار التفاعليّ انتُقيَ تأثُّراً بطبيعة حاضرنا «المكشوف» على العموم، فنقلنا مفهوم علانية المحاكمة الذي ألِفه عقلنا إلى قاعة أكثر تقبّلاً لنا، هي «النيوزفيد»، ودعونا الشعب إليها. اعتُمد النموذج القديم- الجديد، تارةً لانتفاء المسارات الرسمية الآمنة، وتارةً أخرى تحقيقاً لرغبة مشروعة في زعزعة ميزان القوّة بين المُعتدي والمُعتدى عليها، وإعادة إلقاء الوصمة أو «الفضيحة» على ظهر مُستحقّيها.
امتلكت النساء والناجيات إذاً مساحاتٍ إلكترونية عامّة- هي في الواقع خاصّة وربحية- من أجل استعادة حقّهنّ في البوح وتحقيق عدالةٍ ما، لا نزال في طور رسم معالمها. والقول إن هذه العدالة تُحقَّق لحظةَ الفضح، مجرّد وهم. فهي في أحسن الأحوال إنجاز موقّت على منصّات قد تُنصِف احتمالاتُها وخوارزمياتها بعضاً منّا، نحن الذين نشكّل لها سلعةً مثالية، بقصصنا، وملامحنا، وأدقّ تفاصيلنا.
«أحسن من مشي». بائسون/ات نحن لدرجة قبلنا بقدَرنا إذ أصبحنا في حضرة المُتاح الواسع أمام خيارَيْن: إمّا أن نكون سلعاً موجودة، وإمّا أن نكون مشاريع سلعٍ غائبة. وفيما نجتهد، رغم العراقيل والتسليع، لامتلاك ما استطعنا من أدواتٍ لنشر مفاهيمنا وإشهار قصصنا المُراد لها أن تُدفَن، كانت فضاءاتُ أدواتنا تراقب المفاهيمَ التي نصوغها، تمضغها، ثمّ تتبنّاها لتفرزها لنا سلعةً جديدة نظيفة نستهلكها كما الفلاتِر. على هذا النحو، صارت أوجه كثيرة من الممارسات النسوية سلعةً لا نُسائلها، واللاعنصرية سلعة، والاشتراكية سلعة، و«اليقظة» سلعة… والعدالة سلعة أيضاً.
في كتابه La panique woke, anatomie d’une offensive réactionnaire، يعود الفرنسي أليكس ماهودو إلى جذور ظهور مصطلح woke الأميركي النشأة، والذي يمكن ترجمته إلى «يَقِظ» بالعربية، في مجتمعٍ فرنسي كان المصطلح حتى أعوامٍ قليلة خلت غريباً عنه تماماً.
يأخذنا ماهودو في رحلة استكشاف مآلات المصطلح وكيفية استخدامه في أوساط اليسار كما اليمين. تغنّى به بعض اليسار احتفاءً بسياساته التقاطعية التقدمية، وإبرازاً لما كان في الماضي القريب مهمّشاً بل ممنوعاً من الظهور، واسترجاعاً لقضايا أساسية من دون مواربة. استخدمه بعض اليمين أيضاً في معرض نقده لرغبة خصومه بالتطهّر، والاختباء وراء قدسيّة مثاليّة منشودة، وما استحالَ، برأيه، قمعاً لحرية الفكر بسبب منسوب اليقظة العالي في كلّ الميادين تقريباً، حدَّ منع مفكّرين/ات من التجمّع لتفوّههم بمعصية، صغيرة أم كبيرة، منذ عام أو عشرة. وفي بعض الأحيان، تبادل كلاهما الأسباب ذاتها.
في لبنان، التقطنا ثقافة «اليقظة»، إلكترونياً، من ذيلها، هي التي كانت في الأصل وليدة إبداع المناضلين/ات التحرّريّين السود منذ قرنَيْن. اختلطت علينا المفاهيم بين اليقظة والصوابية السياسية، وانتهى المطاف بأن تسلّحنا بالاثنين لرشق بعضنا بعضاً بالاتهامات وتوزيع علامات «الجذريّة» على بعضنا. لكن لا يسار ولا يمين هنا، حيث كلاهما يسار ويمين في آن، تبعاً للحالة وموضوعها. لا بل قد يلتقي هنا بعض مدّعي اليسار مع حزب الله على رجم نسويات، فيتقاطع الهجوم «الجذري» على النسويات المتّهمات بالليبرالية، مع هجوم الحزب الربّاني على النسويات اللواتي دقّ الله ساعةَ الهجوم عليهنّ و«فَسَقهنّ»، وعلى المثلية والنسوية معاً، في الأسبوع ذاته تقريباً. صدفةٌ هي ربّما. لكنّ المؤكّد أنّها ليست جديدةً في عالمٍ غالباً ما صار يلتقي فيه قطبان شديدا التناقض على الضفّة نفسها.
في تسعينيات القرن الماضي، انزعج جورج بوش الأب من حملات حماية الحق في الإجهاض تحت مسمّيات عدة، منها نبذه الصوابية السياسية المنبثقة في الأصل من هاجس مراعاة الفئات الأكثر تهميشاً، تماماً كما ارتاب دونالد ترامب منها من بعده، مع صعود الخطابات الداعمة لضحايا التحرّش الجنسي والأميركيين السود. أما الحركات اليسارية، فيمكن القول إنها انزعجت من نفسها، فاستخدمت تهمة «اليقظة» كنكتة داخلية تداولتها في إشارة طريفة إلى «حملها السلّم بالعرض»، بمعنى آخر، إلى الهوس غير المثمر بالأرثوذكسية السياسية، خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.
حديثاً، تململت الممثلة الفرنسية كاترين دونوف أيضاً منها في أوج صعود حركة «مي تو»، وهي التي كانت قد وقّعت قبل خمسين عاماً على مانيفستو 343 مع سيمون دو بوفوار الداعم للحقّ في الإجهاض في فرنسا، وهي التي لم ترذل اليمين المُحافظ وحسب، بل أعلنت صراحةً أنّ موقفها الناقد للـ«مي تو»ـ المخزي بحججه- لا يمكن أن يُهدى لهؤلاء.
هنا بيت القصيد. كيف يمكن نقد خطابات أو مسارات ضمن حركةٍ تعتاش على ثنائية الهدم والبناء (ولنعترف، حركاتنا بارعة في الهدم أكثر من البناء)، من دون أن تكون أهدت المحافظين والذكوريين والمعتدين فرصةَ التبجّح بأنهم على حق، في لحظةٍ لا يزالون همُ الغالبين؟
كيف يمكن التعايش مع والقفز فوق جراحٍ طريّة في آن، بحثاً عن معنى العدالة وأشكالها، فيما النزيف مستمرّ؟ هذا السؤال أرّق البشرية، لا في جرائم الاعتداءات الجنسية فقط، إنما في حالات الإبادات الجماعية والمجازر الكيماوية وإعدام النساء على أيدي أزواجهنّ وحصارات التجويع البطيء أيضاً. والمفارقة أنّ الضحايا أنفسهم شكّلوا قسماً وفيراً من المتأمّلين/ات بسؤال العدالة الشافية.
الإجابة ليست بسيطة. لكن يمكنها أن تبدأ من أملٍ تبعثه علينا تجارب سابقة وأدبيات نسويات تاريخيات، مثل الأميركية بيل هوكس التي ودّعناها العام الماضي، واسمُها الأول الحقيقي غلوريا-جين.
غلوريا-جين، هي التي لم تترك لها الحياةُ مرارةً إلا وصبغت بها شفتيها، سألتْنا ذات يوم:
كيف نحاسب الأشخاص على أخطائهم، وفي الوقت نفسه نبقى مدركين/ات لطبيعتهم البشرية بما يكفي للإيمان بقدرتهم على التحوّل؟
غلوريا-جين لم تكن إنسانةً باردة أو صاحبة امتيازات وفيرة. كانت إنسانةً شرسة في الدفاع عن مثيلاتها، وغاضبة، غاضبة جدّاً، من المعنِّفين والمتواطئين والبيض الفوقيّين، من ضمنهم نساء الطبقات المحظيّة اللواتي لم يعترفنَ بالضرر الذي أوقعنَه على المهمّشات. هذه المرأة بالذات ظلّت قادرة على طرح السؤال أعلاه. طرحته منذ عقود، وما برحت خليفاتها يطرحنَه اليوم، في أميركا اللاتينية، والعالم العربي، والهند، وفي العالم الجنوبي عموماً، قبل الشمالي المحكوم/ المكتفي بسلطات إنفاذ القانون.
مع غلوريا-جين وقبلها وبعدها، طرحت نساء كثيرات أسئلة تفسح في المجال أمام المُتخيَّل، حول شكل العدالة اللا-أبوية وأسسها، وكان الجواب: ابحثوا عن التحوّل، ولا تكتفوا بالعقلية العقابية التي أثبتت ثقافةُ «صناعة السجون» أنّها لن تجدي نفعاً لوحدها.
كنّ من الأشدّ غضباً والأكثر تهميشاً، لكن قلنَ ما قلنَه، لا من باب محو شجاعة المتكلّمة عن وجعها، بل انقضاضاً على محاولات النظام التسلّل بوسائله العقابية والأبوية والسجنية والاستنسابية والإعدامية إلى لاوعينا. انبرتْ معلّماتُنا لتفكيك تلك الوسائل إذاً، خشيةَ إعادة انبعاثها في الضحايا أنفسهن، لا سيّما «اليقِظات» منهنّ.
فماذا عنَى البديل لمن أردنَ الخروج من مظلّة أدوات الأنظمة التي لم تنصفهنّ في الأصل؟ عنى ربّما شيئاً يشبه ما نبحث عنه لأنفسنا اليوم: إقصاءُ مَن قد يشكّل خطراً على النساء. أو البوح العام أو الخاص سبيلاً للشفاء، وربما الانتقام. أو الاحتضان والاعتراف المجتمعيَّين بالجراح. أو فضح مصادر الخطر، لا سيّما أصحاب السلطة بينهم.
ولكن، هل ردع ويردع كل ذلك المعتدين حقاً، ويستأصل شرارة الاعتداء من عروقهم؟ هل أصبحت الخطوات أعلاه كتاب قواعد جديد نعرب فيه كل ما تحته خط من دون تفكير؟ والأهم، هل صارت النساء في وضع أمني وصحّي أفضل مما كنّ عليه قبل خمس سنوات مثلاً؟ تشير المعطيات إلى أنّ أوضاع النساء، بالحد الأدنى، لم تتحسّن، بل تراجعت في بعض بقاع الأرض. لذا، هي بأمسّ الحاجة إلى التفكير في ألف مقاربة ومقاربة، منها ما سيبقى عقابياً لكي تبقى هناك نتائج للأفعال المؤذية، ومنها ما حان الوقت ليكون تصحيحياً، بالمعنى التحوّلي، أي شاملاً جريئاً لا يهرب من الأسئلة الصعبة، كما شرحت لنا حركة incite منذ عقود.
تتكوّن الحركة واسعة النطاق من نساء أميركيات متضرّرات من الثقافة السجنية، استثمرنَ الوقت والطاقات والخبرات الجذرية (الأرضية) في تطوير استراتيجيات عدالةٍ بعيداً من نماذج الدولة السلبية وتفادياً لأن يصبح المجتمعُ عبارةً عن شرطيّ صغير، يصوّب الأصابع على الآخر السيّئ إلى ما لا نهاية وينتشي ممّا يكاد يشبه المحاكمات القروسطية التي كانت تُدعى العامّة لحضورها وسط البلدة.
تسائل حركة incite المُنتهِك، وتحمّله المسؤولية، وقد تقصيه عن منصب، وتحمي الناجية منه، وتعمل على أن يواجهه محيطه المباشر ويرافقه، وتوزع الأدوار بين عاملين/ات مع الناجيات وعاملين/ات مع المرتكبين/ات، وفق آليات مدروسة وواضحة. تُحدّد المسؤوليات بدقّة، ولا تمضي، بل تدعو إلى وضع إطار زمني ومادي لمعالجتها. وأمثلة التدخلات المجتمعية التي وثّقتها غفيرة في هذا الإطار، من دون أن تلغي التدخلات القانونية والقضائية بالضرورة.
أمّا الشرطيّ الصغير في بلادنا، فنراه اليوم ساكناً نفوس الغيورين على الحقّ فيُشهد كيف يتحوّل بعضهم إلى بعثيّين صغار متمسّكين بكتاب القومية الذي لا يدركه سواهم، موزّعين «العلامات المدرسيّة» يساراً ويميناً في سباقٍ متخيّل على الجذرية، ليُرذل مَن يرسب، ويلتزم مَن لم يرسب بعد موضع الرقابة الذاتيّة، حتى إشعارٍ آخر.
المطلوب، هو في مكان آخر. المطلوب هو أن نظل نسأل، ونبحث، ونراجع، ونعتذر، ونطوّر. والأهمّ أن نصدّق الناجيات من دون أن نحوّل شعارنا السياسي الغالي على قلوبنا والذي ما زلنا بحاجة إليه، إلى نشيد وطنيّ آخر. فنحن في البداية صدّقنا الناجيات لأننا تجرّأنا على السؤال والمساءلة، أليس كذلك؟
صدّقنا الناجيات لأنّنا أخيراً صدّقنا أنفسنا، فحلمنا أن تصدّق أخريات ذواتهنّ ويتحرّرنَ. ضعوا الهوس بثقافة الإلغاء أو الـcancel culture، على أهمية طرحها، جانباً. نحن صدّقنا الناجيات لأننا لم نرد أن نشبه جلّادينا. وها نحن منشغلات في خلق مساراتٍ أكثر عدالة ووضوحاً في تحديد المسؤوليات، لا قلقاً على المرتكب، بل بالدرجة الأولى على الضحية القادمة التي ستتأثّر بالموروث الذي نخلّفه لها، فلا يحدث مثلاً أن تصبح هي جانية أيضاً لأنّ أحدهم ارتأى ذلك.
نخلق المسارات بعيداً من دفاتر شروط التضامن والديكتاتوريات الجديدة، انطلاقاً من جروحنا، لا تأبيداً لها. وعليه، نأسف لإزعاجكن/م.