بدأتُ بكتابة هذا النصّ إثر صدور شهادة اغتصاب في الحيّز الثقافي البيروتي والعربي منذ شهرين تقريباً، انطلاقاً من رغبةٍ بمراجعة آلية تعاملنا المعتمدة عند كلّ شهادة تحرّش أو اغتصاب. الهدف من المراجعة هو السعي لاقتراح إجابات على مجموعة من الأسئلة التي نحملها معنا من تجربة إلى أخرى، يطرحها المجتمع المحيط بنا، لكنها تُسكَت كلما تُطرح، وأحياناً تُقمَع، حرصاً من المناصرين والمناصرات على الناجية وحمايةً لشهادتها. أكملت كتابة النصّ إثر قراءة بيان منصّة ميغافون منذ أيام قليلة حول تغطيتها للواقعة، والذي ختمته بدعوةٍ للنقاش. وإذ قد يختلف المرء مع نقطة أو إجراء تضمّنه البيان، تبقى المراجعة بحدّ ذاتها فعلاً شجاعاً، نادراً ما نُقدم عليه تحسّباً للقلق الذي يتسبّب به، مع أنّنا من دون مراجعاتٍ كهذه نتّجه بلا شكّ نحو التحجّر وانعدام الحيلة. نحن بحاجة ماسّة إلى نقاش نقديّ وغير مرتبط بلحظة ذروةٍ معيّنة، يبحث في تعاملنا مع قضايا العنف الجنسي بشكل عام، على ضوء التجربة. هذا النصّ هو مشاركة في نقاشٍ لن يخلو من العنف اللفظي كما جرت العادة، لكنّ المصلحة الشخصية والعامة تحتّم ألا نمتنع عن النقاش بسبب هذا العنف ومحدوديّته.
قبل البدء يجب التنويه إلى أمرَيْن:
- الزمكان: لا يدور هذا النقاش في قوقعة، لكنه يسعى لكي ينوجد في الأمكنة القليلة المركزية التي وصلها مفهوم «نصدّق الناجية»، والتي تعتمده دفاعاً عن شهادات العنف الجنسي عند صدورها. هي مجتمعات ضيقة في مدن قليلة في المنطقة، فنقاش سبل التعامل مع العنف الجنسي ليس نقاشاً سائداً. من هنا، فإن الخوض في هذا النقاش هو سعي لجعل أدواتنا أشدّ متانةً بالاستناد إلى التجربة. فلا نهرب من حجّة أو حدّة ضدّه، بل نفنّد الحجّة ونطوّع الحدّة. الطموح هو أن يصبح المفهوم متيناً كفاية ليفرض نفسه على أجندات بلادنا، فيحلّ يومٌ تشعر فيه ناجيةٌ بالأمان الكافي لأن تفضح متحرّشاً ومغتصباً على امتداد المدن والمحافظات والأقضية، وليس فقط في الدوائر المركزية والنخبوية.
- اللغة: لا يزال مبدأ «تصديق الناجية» طريّ العود تحت وطأة المجتمع المحافظ على السلطات الدينية والسياسية والاجتماعية. وحتى لو بادرت الإدارات في المؤسسات والمنظمات الثقافية والصحفية إلى التحرّك سريعاً من دون تشكيك في شهادة، فإن ذلك لا ينعكس على المساحات الأوسع ولو بقليل. هذا يعني أنّه مبدأ قيد النموّ، وسيلقى هجوماً شرساً يزداد حدّةً مع كل انتشار جديد له. هذا «الجمهور العريض» والشرس يرفض أحكام «الفاتيكان» بحقّ رجال الدين المتحرّشين والمغتصبين. وبالتالي، فإنّ المعركة من أجل تصديق الناجية هي معركة شرسة بيننا وبين هؤلاء. وهؤلاء هم الاكثرية، وهم الذين تدور المعارك معهم، لكنهم ليسوا معنيّين بنقاش سبل معاقبة الاغتصاب وآليات التعامل معه في الصحافة، مثلاً. وبالتالي، من العبث استخدام اللغة ذاتها التي نواجه بها هؤلاء ضدّ سوانا من المؤمنين بضرورة معاقبة الاغتصاب وتفكيك بناه، أو استخدامها حتى في التوجّه إلى المجتمع العريض الذي نسعى لاستقطابه بحيث يفوز مفهوم «نصدق الناجية» بما فاز به قبله مفهوم «نجرّم العنف الأسري». لا يصبح الموضوع شأناً عامّاً ما دام عصيّاً على النقاش داخل الدوائر التي تحمله، كما لا يمكن لموجةٍ اجتماعيةٍ أن تعلو بقوّة العنف اللفظي والإسكات.
نصدّق الناجية
أما بعد..
في حزيران 2022، خرجت المرأة بشهادةٍ متينة وبليغة عن مُعاشٍ فرديّ قاسٍ، قوامه جريمة اغتصاب، وفيها اتهام صريح لكل من اعتدى، تواطأ، أخفى، قمع، وتمادى. خلال أسبوع نشر الشهادة، تتالت البيانات الصادرة عن المؤسسات والمنظمات الفنية والثقافية والصحفية ذات الصلة، تُشهر فيها سريعاً وبلا تردّد تصديق شهادة المرأة، واتخاذ خطوات للتعامل مع الواقع الذي فرضته الشهادة.
الخطوات تمثلت بالتالي: إشهار التصديق، قطع العلاقات الفنية مع المتّهمين، وقف العلاقات المهنية مع ربّ العمل الذي حمى المغتصب، فتح تحقيق داخلي في البنى والجرائم الأخرى التي ربّما لم تستفد من القدرة على الإشهار، والعمل على بناء مقاربة أفضل للتعامل مع جرائم كهذه قبل حصولها وبعده.
أما المؤسّسة التي اتّهمتها الشهادة بالتستّر على المغتصب وحمايته، فأقالت ربّ عملها وأحد مؤسّسيها، سمّت إدارة جديدة مكانها، قطعت العلاقات مع المغتصب وشريكته، وأعلنت الخوض في مراجعة لأداء الإدارة السابقة ولآليات التعامل مع العنف الجنسي، والبحث في مدى الحماية الذي تأمّن للمغتصب وإن كان قد تأمّن في وقائع أخرى، والتدقيق في جرائم أخرى ربما تعرّض لها فريق العمل أو المتعاونون/ات معه. وأعلنت منظمات شريكة لهذه المؤسسة جهوزيتها للدعم والمساهمة في هذا التحقيق.
الشهادة تعلن القضية. قضية صاحبتها أوّلاً، لكن أيضاً قضية العنف الجنسي كسياق. الأولوية دائماً للناجية وتكون عبر التصديق وتأمين الحماية قدر المستطاع ومحاسبة المعتدي. تتطلّب هذه المرحلة الأولى نقاشاً إثر اكتمالها، وهو ما يدخلنا في حيّز السياق:
ما هي الإشكاليات التي رافقت هذه الشهادة وكيف نعالجها؟
ما هي الإشكاليات التي تتكرّر في كلّ تجاربنا وكيف نتعامل معها؟
هذه الإشكاليات تتضمّن أسئلةً أوليّةً لجمهور يحتكّ بالقضية من خارج البيئة الحاضنة لشهادات الاغتصاب، من نوع:
لماذا تصدّقون الناجية بلا تدقيق في الشهادة؟
لماذا لا تريدون الاستماع لـ«الرأي الآخر»؟
كيف يُعاقَب المغتصب خارج القضاء؟
لماذا الحملة على أهله وأصدقائه؟
وهناك أيضاً الإشكاليات التي تأتي من خبرة في التعامل مع العنف الجنسي، وصارت تستوجب البحث، منها:
الخطوات التالية لردّ الفعل الأوّل، آليات التحقيق، التغيير في نمط إدارة المنظمات الثقافية، التغيير في الأماكن العامة التي تستضيف أمسيات قد تكون خطرة على النساء...
ولأننا في أولى مراحل التعامل مع العنف الجنسي خارج القضاء، تُعتبر هذه الأسئلة بديهيةً، إلى حدّ ما. لا بل يمكن اعتبارها فرصة لتعميم المعرفة حول مفهوم «نصدّق الناجية» وآليات العمل لمحاربة العنف الجنسي وتفكيكه.
لكن، تبقى تلك الخطوة ممتنعة بسبب جوّ مناصر لكن دفاعيّ حدّ التوتّر تجاه أي سؤال. وللأسف، كثيراً ما يتمّ إلغاء هذه الأسئلة وأصحابها عبر استخدام «تصديق الناجية» كأداة قمع، مبدأ يعلو فوق النقاش، حتى ولو كان هذا النقاش سيصبّ في صالح المفهوم، ويؤسّس لسيادته وتمدّده على أوسع رقعة اجتماعية ممكنة. وهو المفهوم الذي وُلد أساساً من الحاجة إلى بناء سياقٍ بديل عن المحاكم والسجون للتعامل مع قضايا العنف الجنسي.
لماذا نصدّق الناجية؟
يتعامل الحيّز العام، حيث يسود القانون والإعلام العريض والأخلاق العامة، مع الاغتصاب والتحرّش كجرائم لها مبرّر أوّلاً («إيه اللي وداها هناك»). ثمّ إذا انتفى المبرر، تصبح جريمة بحق الرجل في عائلة المغتصبة وتتطلّب تقديم قربانٍ له لترميم شرفه (تزويج المغتصَبة من مغتصبها). ثمّ إذا استحال ذلك، يحين موعد القانون الجاف الذي يتعامل مع الاغتصاب كأنه يتعامل مع أيّ جريمة عادية: أين الشهود؟ أين الأدلّة؟ أين أداة الجريمة؟
لكنها جريمة تتناقض، بطبيعتها، مع وجود شهود وأدلّة، إلّا في ما ندر. جريمة تتمّ في السرّ، وتتغذّى من الخوف، وتستمرّ بقوّة التكذيب والتهديد، وتُحاط بالعار والقلق. المتّهم بها ينفيها فور ورود اتّهام، لا بل وقد تنفيها الضحية حتى في حال انكشافها خوفاً من السلطات الحاكمة. فالمغتصَبات يُعاقَبن، وأحياناً يُقتَلن. وفي أحسن الأحوال، تنتهي القصة بكلمة المغتصَبة ضد كلمة المغتصِب، بينما القانون والمجتمع والدين والأخلاق تستقرّ في حضن الرجل وكلمته. وفي أحيان قليلة، يقع عقاب المحكمة، فيُرسَل المتحرّش والمغتصب إلى السجن، بلا أيّ تغيير على المستوى القانوني يضمن أن هذه الجريمة البنيوية صارت قيد التفكيك. حتى يكاد المرء أن يفكر: فردٌ فشل في حماية حقه بالاغتصاب فرُمي في السجن، ليفدي استمرارية العنف الجنسي.
من هنا، توصّلت المناضلات إلى أداةٍ لصدّ هذا الباب وفتح آخر أمام الناجيات من جرم الاغتصاب، وهو: نصدّق الناجية. أمسكنا بهذا الشعار وهجمنا به على جبال السلطات الصخرية، نواجه كل يوم تكذيبهم ونفيهم، لنقول: شهادتها وحدها هي الدليل. ولأننا نعرف أن جبال السلطة يعتبرون جسم المرأة ملكاً لهم كضلعٍ من ضلوعهم، وبالتالي لا يعتبرون الاعتداء عليه جرماً إلا بحق «رجُلها»، قلنا إنها هي محور القضية، كلمتها هي الاتهام والإدانة معاً. تلك هي راهناً أولى أدواتنا بوجه سلطات صخرية ثابتة في أرضها.
تسكيت النقاش
الآن، كيف يُستخدَم هذا المفهوم لتسكيت النقاش؟
لمّا نشرت المرأة في الجو الثقافي الفني والصحفي شهادة اغتصاب، كان «تصديق الناجية» الإطار الأكثر جذريّةً وسرعةً للعمل، لكي لا تأفل القضية في مهاترات «كلمتها ضدّ كلمته»، ناهيك بـ«إيه اللي وداها هناك».
كان يمكن لهذا الأداء السريع أن يتيح مساحةً لمناقشة الإشكاليات التي ترافق ظهور كل شهادة في الحيّز العام لجهة التصديق ونوعية العقاب، ولكن أيضاً، تطوير أساليب المحاسبة والحماية المستقبلية. لكن بدلاً من هذا البحر من الواجبات الذي ينتظرنا، سلك «النقاش» على وسائل التواصل الاجتماعي درباً آخر كثيراً ما يسلكه، درباً عقيماً متحجّراً في لحظة ردّ الفعل الأول، درباً عصبيّاً وكسولاً حدّ السأم.
هو درب الـ«لا يكفي، يجب أن...» يجب أن يتمّ قطع التمويل عن المؤسسة التي عمل فيها المغتصب، يجب أن يتمّ حلّ المؤسسة وإلغاؤها من الوجود، يجب إلغاء كافة المؤسسات الشريكة لها أو المتعاونة معها، يجب وقف تمويلها، يجب الإطاحة بكل الإدارات، يجب تدمير الرأسمالية، يجب حرق الأن. جي. أوز، يجب تفكيك العولمة، يجب ويجب ويجب…
إلى جانب هذا المنحى الذي يشتّت النقاش بحيث لا يعود عن آليات التعامل مع العنف الجنسي بشكل خاص، وإنما عن النظام العالمي الجديد بشكل عام، يحلّ منحىً آخر، لكل مجتمع صغير حصّة منه، قوامه العنف اللفظي، وصولاً إلى التنمّر. أفرادٌ يجدون في كل قضية عامة، من الثورة إلى الاغتصاب، فرصةً لفرض الفراغ وملئه بالمزايدة. هو درب الـ«لديك رأي؟ تريد أن تسأل؟ أنت بسوء المغتصب... لا بل أنت أسوأ من المغتصب». والمشكلة أنّ هؤلاء يتضمّنون باقةً من الأقلّ معرفةً ونضاليةً في محاربة العنف الجنسي والتمييز الجندري، فلا يفعلون إلا رمي المساحة العامة برشقٍ إقصائيّ وتسكيتيّ، يخلو من الحجج، اللهمّ إلا أكثرها تداولاً. فتنطلق جوقة «أطهر الناس» في إعلان جذريّة الذات على جثّة النقاش، أيّ نقاش: من «كيف تتأكدون من صحة الشهادة» إلى «كيف نعاقب المغتصب خارج أطر القانون»، مروراً بـ«لكن هل قرأتم ما كتبت فلانة عمّا جرى؟». مع كل شهادة، تعود هذه الأسئلة وسواها إلى الواجهة. وفي كل تجربة، ينتهي النقاش بالصراخ والاستعراض. لماذا؟ باعتقاد أهل الصراخ، الصراخ سيُخرِس التشكيك، ولن يبقى سوى صوتهم في الفضاء، بما سيعود على الناجية/ات بالخير. وهذا صحيحٌ جزئياً، لن يبقى سوى صوتهم، ولكن ما الذي يفيد ضحايا الاغتصاب في بقاء صوتهم وحيداً في صحراءٍ رمالها شكّ؟
والصراخ لا يتردد أمام إخراس أصحاب القضية باسم صاحبة الشهادة، لأنه عشوائي يستهدف الجميع: النساء اللواتي يتعرّضن يومياً لشكل من أشكال العنف الجنسي فيطرحون الأسئلة التي يتوقّعونها من المجتمع (أسئلة الأدلة والصدقية)، الناشطات النسويات اللواتي يطمحن لمعالجة الإشكاليات وتدعيم المقاربات، «سكّان» الحيّز العام المعتادون الذين «اكتشفوا» قصص اغتصاب مؤخرًا وارتأوا أن يتعاملوا معها ببديهية تعاطيهم مع أي جريمة أخرى. هي آلية استعداء تُكهرب النقاش كلما حلّت شهادة. كأن أهل الصراخ هم المرأة السمراء، وكل الناس من حولهم هم الرجل الأبيض. مع أن الكثير الكثير ممّن يتمّ إخراسهنّ هنّ ضحايا تحرّش وناجيات من اغتصاب وأصحاب مصلحة مباشرة وحقّ شرعي في خوض هذا النقاش.
والأنكى، يبرّر أهل الصراخ لأنفسهم كل هذا الصراخ عبر استغلال مفهوم «نصدّق الناجية»، بحيث يجعلون منه في هذا النقاش: فليسقط كل شيء، باسم الناجية. وهكذا، بين التشتيت والمزايدات، ينتهي كل نقاش قبل أن يبدأ. ويبقى إطار عملنا، «تصديق الناجية»، محصوراً في حدود الكلمتين اللتين تكوّنانه، قوياً بحفنةٍ من الناس تؤمن به، ولا نجد سبيلاً إلى إحاطته وتدعيمه إن بالحجج والإجابات أو بالناس.
لكن، ماذا لو كانت الناجية التالية رأسمالية الهوى وتحبّ الأن. جي. أوز؟ ماذا لو كانت تجد في «سقوط كلّ شيء» سبباً لتعرّضها للاغتصاب، مثلاً؟ ماذا لو كانت الناجيات في المناطق والأرياف والأطراف لا يجدن التصديق في محيطهنّ، بل يبحثن عن إجابات لهذه الأسئلة المشكِّكة وعن أدوات تلائم واقعهنّ وعن حجج تدحض ما يقال لهنّ؟ ماذا لو ولو ولو..
معظم جرائم الاغتصاب تموت مع صاحبتها. معظم ضحايا الإغتصاب لا يمتلكنَ أدوات تُعينهنّ على رفع الصوت وطلب العدالة. أيّ شهادة اغتصاب تأتي من امرأة متمكّنة وقادرة على رفع الصوت هي شهادة عن قضية المرأة المعنية بها أولاً، لكنها أيضاً تمدّ لنا اليد، نحن المعنيات بتفكيك ومحاسبة بنى العنف الجنسي، لنبني عليها من أجل حماية أوسع، تصل إلى أوسع مساحة من المناطق والطبقات والأوضاع. وهذا يحتاج إلى نقاش، لا نجوميات فردية من قبل المناصرين والمناصرات.
هل هناك «حدود» للنقاش؟
بعد استعراض الأسباب التي تُكهرِب النقاش عادةً، قد يبدو ملحّاً البحث في نوعية هذا النقاش المطلوب وأسسه، علماً أنه يجري في الحيّز العام وهو بالتالي عرضة لتدخّل كل الناس، من المجتمع الحاضن إلى المجتمع العريض، من رافضي العنف الجنسي إلى مريديه. لذلك، ربّما قد يكون مجدياً أن نبدأ بأن نسأل أنفسنا: ما الذي يخيف في النقاش؟
أكثر الحجج انتشاراً وسلطويّةً هي: «إيه اللي ودّاها هناك». لو قالها أحدٌ، وقيل له: أسلوب حياتها الذي يختلف عن أسلوب حياتك «وداها هناك»، هل يعني ذلك أن اغتصابها صح أو حق؟ لو رأيت امرأة عارية تسير في الشارع، هل تغتصبها؟ وإن اغتصبتها، هل يخلو الفعل من جرم؟ لسنا في نقاش حول أساليب الحياة، وإنما حول الجريمة. عدم الدفاع عن النفس لم يكن يوماً مبرراً للقتل، وبالتالي «اللي وداها هناك» لا يبرر اغتصابها.
وينفرز الناس على مرّ الحجج والنقاشات، وتتمتّن جبهات التغيير المجتمعي. والقائلون بأنها «تستأهل الاغتصاب» يُفرزون بصفتهم العدو في هذه القضية، غير معنيين بتفكيك العنف الجنسي، وإنما بحماية استمراريته. وضدهم، نعمل. ولأجل إقناع المجتمع العريض بنبذهم وإنصاف الناجيات وتجريم هذا العنف بشكل جدّي وملائم، نجتهد ونناقش. تماماً كما كانت الحال مع العنف الأسري: نقاش كل المواضيع التابو أتاح نقل الجريمة من خانة «الشأن الخاص» إلى حالها اليوم.
هذا عن نقاش أسوأ الحجج التي تبرّر الاغتصاب، فأين الصعوبة أو الخطر في نقاش ما نحتاج نحن لمناقشته، في المجتمع المعني، المعتدى عليه والداعم؟ لا يجوز أن تملأنا الشجاعة الكاملة عند مناقشة المجتمع العريض، وحتى «العدو»، الذي يستعمل العنف الجنسي، لكنّنا نتردّد أمام النقاش في المجتمع الضيّق بسبب العنف الإقصائي المتوقع فيه. لا صعوبة أو سرّ أو تسرّع في السياق الذي أوصل إلى قرار «تصديق الناجية»، وبالتالي يمكننا نقاشه لنقنع أكبر شريحة من الناس به. ثمّ، منطق سماع «الرأي والرأي الأخر»، هل هناك هشاشة في أسباب رفضه؟ والمغتصب، لو خرج بتصريح، لماذا نتجاهله بينما المجتمع المحيط يعتمده بنداً في التعاطي مع القضية؟ الخشية هنا ليست على حق المغتصب بالتعبير (!) وإنّما دائماً وأبداً على حماية صدقية الناجية أولاً، وعلى مواجهة العنف الجنسي المنتشر تالياً. عملنا يهدف إلى إقناع المجتمع المحيط بعدم وضع كلمته على سلم المساواة مع كلمة المغتصبة. كل رجل قتل زوجته قال إنها خانته. وكل رجل اغتصب امرأة، قال إنها أغوته. وكلاهما قالها بعد فشله في نفي وقوع الجريمة، إن جملةً أو تفصيلاً. لن نتمكّن من منع أحد من الكلام، وحتى لو تجاهلناه، لن يتجاهله المجتمع العريض. وبالتالي، فإن واجبنا هو فرض إطار لهذا الكلام، تفكيكه كحجّة مزمنة تتغذّى من ذكورية القوانين والمعتقدات، وربطه بتاريخ الجريمة، على مرّ آلاف القضايا.
صراحةً، لا يجب أن نخرس النقاش، وإنما يجب أن نستجديه، فهو سبيلنا إلى إظهار قوتنا وأحقية قضيتنا.
وفي الصحافة، كيف يكون العمل بلا أدواته الأساسية؟
العمل الصحفي يحتاج بدوره لمعالجة هذه الأسئلة، ولكنه يمتلك أيضاً خصوصيةً إضافية فيها. حالياً، معظم قضايا التحرش والاغتصاب تدور بأكملها على منصات الصحافة البديلة ومواقع التواصل الإجتماعي، ومعظم هذه القضايا ترافق حتى الساعة مع حملة تكفير لكل من طرح سؤالاً أو أثار فكرة خارج «المسموح به».
تعتمد هذه الحملات نهج الجيوش الالكترونية، تكرّر ممارسات ذكورية قوامها المزايدة بالنسوية وعليها. فتراها تشرئبّ بعنف الكلام وتنمّره لتلغي سؤالاً من نوع: إذا كانت أسس الصحافة مبنية على مبدأي «التدقيق» و«الرأي الأخر»، كيف تتعامل مع منطق «نصدّق الناجية» الذي يستهدفهما بشكل خاص؟ عند طرح هذا السؤال، يصبح طارحه مستباحاً لكافة أشكال النعت والاتهام، وتنطلق معركة عضلات لسانيّة، تنتهي بانتشاء الأكثر سوقية وكبت الآخر. في المقابل، استعراض السياق الذي أوصلنا لتصديق الناجية يبدو أكثر سهولةً، إقناعاً، وفاعليةً من كل هذا الصراخ.
إنّ كل تمرّدٍ على سلطة هو مشروعٌ قابل لأن يتحوّل إلى تقليدٍ قمعيّ. «نصدّق الناجية» التي أتت تمرّداً على قوانين التطبيع مع العنف الجنسي، هي غايةٌ بحدّ ذاتها وليست أداةً للتسكيت أو القمع أو الاحتفال بالذات الجذرية. وعلينا أن نجتهد لنجيب عن كل ما يحيط بها من أسئلة وتشكيك، ويجب أن نجتهد لنطوّر أدواتنا في محاربة العنف الجنسي. ما زلنا بعيدات عن مرحلة «ختامها مسك» في عالم محاربة الاغتصاب والجرائم الجنسية، ولا نخضع في بحثنا لقانونٍ مُنزَل كقوانين الذكورية التي تسعى للألوهة والعصمة. «نصدّق الناجية» لم تكن ممكنة منذ سنوات قليلة، وهي لن تكون كافية بعد سنوات قليلة. كل قواعدنا هي أدوات عمل لبلوغ درجة أعلى من الأمان والمحاسبة، فنحن نأتي من قعر الظلم، والسكّة نحو العدالة تتّضح كل يوم وتتغيّر معانيها كل يوم. وتكفينا قصة كاذبة واحدة لتنقلب «نصدّق الناجية» ضدنا، وهي القصة التي يخشاها الكثيرون. ولكن لا مفرّ منها، ولا يجب أن نخشاها، لأننا لم نخترع الاغتصاب والتحرّش، وإنّما اختبرناه مرةً تلو الأخرى في أجسامنا، منذ ما قبل أن نمتلك كناجيات الحق بالكلام حتى أصبحنا نسعى لفرض تصديقنا ما أن نقرّر الكلام.
حالياً، تقتصر آليات تعاملنا مع العنف الجنسي على نقطتين: التشهير والصرف الوظيفي. هذه آلية عقاب هي أقرب للانتقام، لا إلى المحاسبة. كل مغتصب يستأهل العقاب، لكنّ محاربة بنية العنف الجنسي ضد النساء وتفكيكها يحتاجان إلى آليات محاسبة مجتمعية لا تقتصر على الانتقام من المغتصب كفرد.
المنحى التشتيتيّ، كما المنحى التكفيري، في مقاربة هذا النقاش ليس كافياً، وهو فقير ومُفقِر، محدودٌ ويحدّ سواه، حتى صار عائقاً ضدّ هذا العمل الذي ينتظرنا.
ختاماً…
هذا الكبت للنقاش، الذي يتمّ تلطّياً خلف الناجية وباسمها، يوحي بأنّ القضية ركيكة، أو حججنا واهية، ومن هنا الخوف من أي شيء على سردية الناجية. في الواقع، وعلى مرّ التاريخ النسوي والتجربة الصحفية في العالم بأكمله وفي منطقتنا، لا حججنا واهية، ولا قضيتنا مفبركة، ولا أذهاننا عاجزة عن دراسة الواقع والتعامل معه. لكنّ النقاش يبدو كتراجع أو ضعف بالنسبة لأصحاب العضلات التشهيرية، وفي ذلك ذكورية صريحة. فصرنا مجبورات ومجبورين على العمل تحت سقف الأشدّ محدوديةً وعنفاً بيننا، لأنهم الأعلى صوتاً والأشرس مضموناً والأبذأ لغةً. وهذا الواقع ليس محصوراً بمحاولات النقاش في سياق العنف الجنسي، وإنما هو معمّم على كافة مساحات التفكير والهمّ الإجتماعي. وكما لم يُنتِج ذلك خيراً في أيّ سياق آخر، لن يفيد لا ضحايا العنف الجنسي ولا الصحافة.
باختصار وبعد كثير الكلام، لا يحقّ لأحد أن يُخرس نقاشاً محقاً لا يحتوي تشهيراً، حضّاً على العنف، أو تمييزاً ضد فئة. هذا ما نقوله للأنظمة التي تحاكمنا بالقدح والذم، وهذا ما نجد أنفسنا نكرّره لشرطة المجتمع التي تدعي التقدّمية. قضيتنا ليست ضعيفة، أذهاننا ليست محدودة، وأجسامنا لا تزال مستباحة. أما مجتمعاتنا، فهي مع كل تجربةٍ تصيح بالحاجة لنقاش ألف موضوع مرتبط بالعنف الجنسي. على من يعود إخراس النقاش الإشكاليّ بالفائدة، لمّا الناجيات بأنفسهن قرّرن الإشهار في العلن؟
الحماية لا تعني القمع. هذه أيضاً جملة نقولها للأنظمة ولمتمرّدي المزايدات في مجتمعاتنا معاً. الحماية لا تعني القمع، والقمع لا ينتج خيراً لأحد. قلتها للنظام؟ قلها لنفسك.