حسم حسن نصر الله أمره. انتقل من التردّد تجاه الثورة، إلى إعلان العداء لها. انتقل من الطلب من «جمهور المقاومة» الانسحاب من الساحات إلى الطلب منهم مواجهة الساحات.
على جسر الرينغ، لم يأتِ هتاف «شيعة، شيعة» للردّ على أيّ مطلب من مطالب الثورة أو أيّ هتاف من هتافاتها، بل كان إعلاناً للتعامل مع الثورة من الآن فصاعداً على أنّها حركة مُعادية. الهتافات العابرة للمناطق والطوائف هي أكثر ما أخاف نصر الله. الثورة، بالنسبة إليه، لن تنال إجماعاً وطنياً. الإجماع الوطني الوحيد المرغوب هو إجماع على المقاومة. لن يكون مسموحاً للّبنانيين أن يتوحّدوا حول أي شعار آخر إلا إذا ابتكرته المقاومة نفسها، وتفرّع من الإجماع عليها وحولها. كلّ وحدة أخرى تضعف الإجماع الأوّل.
على جسر الرينغ، لم يظهر العداء للثورة لأنّ الثورة انحرفت ولم تعد «حراكاً صادقاً»، ولا لأنّ نصر الله خائفٌ من محاكمات الفساد، بل لأنّ شعار «الشعب يريد إسقاط النظام»—كيفما برمْتَه—لا يمكن ترجمته إلا إضعافاً لسيطرة حزب الله، الراعي الرسمي للتركيبة الحالية. فللمرّة الأولى في تاريخه، يملك حزب الله رئيساً للجمهورية، وأكثريّةً واضحة في مجلس النوّاب، وكان يملك حكومةً موالية تجمع القوى السياسية كافّةً. للمرّة الأولى، كان الاطمئنان إلى القوّة العسكريّة موازياً للاطمئنان السياسي. وهذا ما يريد حزب الله استعادته عبر توجيه الرسائل لكلّ الأطراف للإسراع بتشكيل الحكومة، وتشكيلها وفقاً لمشيئة الحزب. وما الرينغ إلا كشفاً عن عيّنة صغيرة ممّا يمكن الحزب أن يفعله إن فكّر أيٌّ كان في قلب المعادلات.
على جسر الرينغ، لم تكن المواجهة مع المتظاهرين الذين قطعوا الطريق وحسب، بل ظهر أيضاً، من وراء صرخات التحدّي، خوف حزب الله من التحوّلات التي فرضتها الثورة داخل التركيبة الحاكمة نفسها. فالأطراف التي سبق أن أعلنت استسلامها، تعيد حساباتها الآن. وبدا أنّ للجيش حساباته الخاصّة المنفصلة عن مصلحة حزب الله أو أيّ من الأطراف السياسية الأخرى. لكنّ الأهمّ هو ما أصاب الحليف المسيحي. فحتى لو انتهت الثورة الآن، وهي لن تنتهي، فإنّ التيار الوطني الحرّ هو الخاسر الأكبر شعبياً، ومرشّح حزب الله الرئاسي ابتلعتْه الهيلاهو. ولن يساعد سلوك «جمهور المقاومة» على الرينغ على بثّ الروح في حيويّة وثيقة التفاهم بين الجمهور العونيّ وجمهور حزب الله.
على جسر الرينغ، انهارت معادلةٌ أخرى. فلم يخفَ على أيّ متابع رمزيّة وقوف الجيش حاجزاً بين «جمهور الثورة» و«جمهور المقاومة». لا تقتصر رمزية هذا المشهد على أنّ الجيش والشعب والمقاومة ما عادوا في الملعب نفسه، بل تفترض أيضاً أنّ الخطوة اللاحقة هي إطلاق الصفّارة كي يبدأ اللعب. فإمّا أن يفتح الجيش الطرقات بالقوّة، وإمّا أن تفتحها «المقاومة» بالتشبيح. إمّا تنفيذ الأوامر التي لا تصدر من اليرزة، وإمّا إظهار عجز الجيش عن حماية «السلم الأهلي». وقد سبق أن ظهر اهتزاز معادلة «شعب- جيش- مقاومة» منذ تسريب تلك الشائعة الغريبة عن وضع قائد الجيش تحت الإقامة الجبرية، ثمّ تصريح أحد نوّاب حزب الله عن الضبّاط الذين تفرّجوا على إهانة النوّاب، ناهيك بالصراع على الرئاسة.
على جسر الرينغ، ورغم كلّ ما سبق، لا يمكن تفسير كلّ هذا العداء للثورة بالمشهد اللبناني وحده. فنصر الله، على الأرجح، يتصبّب عرقاً كلّما أتته أخبار العراق، ناهيك بإيران. يريد أن يفرد عباءته ليطمئنّ أنّ كلّ جمهوره ما زال قابعاً تحتها. قرقعة طنجرةٍ واحدة في الضاحية تخيفه. مسيرةٌ في أيّ قرية جنوبيّة تؤرّقه. ما عاد ممكناً له التفرّج على «شارعه» يقف في منطقةٍ رماديّة، عينٌ على المطالب المحقّة وعينٌ على المقاومة. يريد نصر الله العَينيْن الاثنتَيْن. وهو لا يدري أنّه، بعد الثورة، باتت لنا أعيُنٌ وقلوبٌ كثيرة.