تحليل إمبرياليّة واستعمار
مازن السيّد

هل نحن خَوَنَة؟

13 تموز 2021

لا عن جدّ، أسأل فعلاً.

عندّ كل مفترق سياسيّ كبير في بلادنا، تعود قضية تصدّينا للسلطات المحلية لتظهر كـخيانة لـ«القضية» وتآمر على قوى سياسية من المفترض بنا أن نؤمن بمعاداتها للإمبريالية والهيمنة الخارجية، بل الغربية تحديداً.

الجواب الليبرالي على هذا الإتهام لا يقدّم ولا يؤخّر في مسألة التخوين نفسه، لأنه ينفي غالباً وجود صراع من طبيعة التحرّر الوطني في مواجهة الكولونيالية. يعتبر الجواب الليبرالي في مجتمعاتنا ضمناً أن المسألة تتلخّص بقضايا الفساد وسوء الإدارة والطائفية، إلخ… وبالتالي، فإنه عاجز عن قراءة الواقع المحلّي كإفراز من إفرازات الواقعين العالمي والإقليمي عبر التاريخ والحاضر. وذلك إمّا لأنه يتعامى عن هذه العلاقة بين الجزء والكلّ، وإمّا لأنه قائم على قبول أيديولوجي سقفه الإصلاح بالواقع السائد عالمياً.

لكنني أسأل:

  • هل يمكن لأي طرف سياسي سلطوي هنا أن يستند إلى شرعية تحرّر وطنيّ؟
  • هل لدينا أنتي-كولونيالية في قوى الحكم؟
  • يبدو بديهياً وجود قوى سياسية وعسكرية اندمجت وما زالت في صراع عسكري جزئي مع قوى الاحتلال والاستيطان، ولكن هل يعني هذا وجود نهجٍ أنتي-كولونياليّ؟
  • هل يكفي هذا الصراع لتشكيل الشرعية التحررية في تخوينها واحتكارها لحدود الأخلاق في العمل السياسي؟

لنجيب على هذا السؤال، علينا أن نسأل: ما هي الجدوى العامّة للأنتي-كولونيالية؟

نحن نعرف جدواها الخاصّة. أي منفعتها المرحلية للنخب السياسية التي تتبناها نظرياً، في سعيها لاتخاذ دور الوساطة المحلية ضمن خريطة الهيمنة العالمية. نعرف جيداً قدرة الأنتي-كولونيالية على إنتاج أوليغارشيات مالية وعسكرية. نعرف جيداً قدرة الشعار الأنتي-كولونيالي على خلق شريحة سياسية جديدة من السماسرة المحليين في السوق العالمية.

نكرّر:

ما هي الجدوى العامّة للأنتي-كولونيالية؟

ماذا يستفيد منها الإنسان العادي في واقعه اليوميّ؟


المصلحة العامّة في الأنتي-كولونيالية

يقوم مفهوم المصلحة العامّة في الأنتي-كولونيالية على تحقيق كرامة الإنسان عبر تمكينه من استثمار حرٍّ لثروته المادّية والعقلية والنفسية. باختصار، تستند هذه المصلحة العامّة على تحرير المجتمع من قيود المُهيمن الذي يقتل وينهب ويفتت البنيان النفسي للإنسان. لذلك، فإذا أردنا تفحّص أي طرح من باب توافقه مع الأهداف الأساسية للأنتي-كولونيالية، علينا أن نختبره من زاوية 3 شروط:

  • حماية الجسم المادي للإنسان من العنف المباشر للمهيمن.
  • استقلالية الموارد والثروات الإقتصادية على أنها الحقّ المقدس للشعب في بيئته ونفسه.
  • استقلالية الخيارات السياسية والاجتماعية على أنّها الحق المقدس للشعب في تقرير مصيره.

ولنا أن نستفهم على ضوء هذا: من هو الخائن؟

إن العقود الثمانية الأخيرة قد شهدت بوضوح تنازل الأيديولوجيات الأنتي-كولونيالية المحلية عن الشرطين الأخيرين على الأقل. فمن بدأ بالتأميم وصل إلى الخصخصة، وأي خصخصة! ومن بدأ بالتعريب، انتهى بالتغريب والتشريق والتهجير. ومن بدأ بالإمامية تخالط بنيوياً بالرأسمالية وتوافقية مصرف لبنان. ومن قال بالتحرير رهن شعوباً بحالها للفقر والقمع، للتجهيل والتهويل. وكأنهم جميعاً ساروا في حتمية ميكانيكية نحو الاصطدام بالتناقض التأسيسي في مناهجهم.

لقد اصطدمت هذه الدعوات باستحالة التوفيق بين نزعاتها المعادية للهيمنة الخارجية وعلاقتها الفوقية مع الإنسان والمجتمع المهَيمَن. بل اصطدمت بنفسها، بكونها امتداداً للكولونيالية، تِركتها فينا وعلينا حين تنتقل من الهيمنة العسكرية المباشرة إلى الهيمنة الإقتصادية - وبالتالي الثقافية والقِيَمية - الممنهجة.


المستعمر والزعيم

لأنّ هذه التيارات والخطابات كلها أدّت ولا تزال دوراً اقتصادياً في هذه الهيمنة الكولونيالية المحدّثة، فقد كان حتمياً أن يتجلى التناقض التراجيدي بين فكرة المجتمع المقاوم وواقع الاقتصاد المدولر. لكنّ الجذور البنيوية لهذا التناقض تكمن في علاقة الوراثة المباشرة بين الكولونيالية الاستيطانية والأنتي-كولونيالية السلطوية، بين المستعمر والزعيم.

يعيد الكثير من الكتاب والمفكرين المحليين مسألة الزعامة في حياتنا السياسية إلى طبيعةٍ ما في جوهر الإنسان «الشرقي» او العربي، وهؤلاء عالقون في فلسفات كولونيالية أصّلت عندهم عقدة الدونية. بل إنّ كل محاولة فهم للثقافة الزعاماتية دون ملاحقة حركتها خلال لحظات التحوّل التاريخية، تبقى حتماً ضمن حدود الفانتازيات العديدة عن «الجوهر».

وبالعودة إلى تاريخ المحوري من صراعاتنا السيادية، سنجد في كلّ مرّة واقعَيْن منفصلَيْن للمسألة التحرّرية، واحداً شعبياً جماهيرياً متجذّراً في الكرامة اليومية للإنسان وآخر فوقياً فئوياً يطمس آثار الأول ويجهض تراكماته كلّ مرة.

خلال معركة الاستقلال من الاستعمار الفرنسي في لبنان، نجحت الاستراتيجية الكولونيالية المخضرمة في إنتاج «نخبة استقلالية» هي في الحقيقة عملية تجميع للقوى السياسية الوسيطة من إقطاع ونخب مركزية تحت الاستعمار، وتقديمها للمجتمع والتاريخ ضمن مسرحة قلعة راشيا ومشتقاتها.

كان الدور الحقيقي لهذه النخبة المخترعة طمس الحراكات الثورية العنفية الجماهيرية الكثيرة والمؤثّر التي انفجرت في الهوامش الجغرافية والاقتصادية، وإخراجها من التاريخ والوعي الشعبي. أي إجهاض النافذة التاريخية أمام تحول القوى الشعبية ودخولها دائرة السيادة السيكولوجية والسياسية، واستدامة الفعل الكولونيالي عبر بنية الزعامات-الطوائف التي تضمن مصالح المستعمِر عن بعد. هذا هو باطن التوافق الميثاقي اللبناني.

في معركة التحرير، تمكنت القوى السلطوية النخبوية التي خلفها المستعمر تحديداً في سوريا - وبعد أن فرضت إرادتها على نظيرتها اللبنانية إثر الحروب الاهلية المتتالية - من صياغة المعركة أيضاً في سياق فئوي أقلوي مذهبي، ضمن تحالفها السياسي مع القوّة الإقليمية في جمهورية ايران الاسلامية. وهكذا أجهضت أيضاً نافذة أخرى للتحول الجماهيري، عبر حصر المعركة في نطاق بنية الزعامات-الطوائف وطمس التاريخ الحيّ لمواجهة الكولونيالية الصهيونية من شمال البلاد إلى جنوبها.

وكذلك حتى في معركة إخراج النخبة السورية الحاكمة من لبنان عسكرياً على الأقل. فالمعركة التي هي في عمقها أيضاً معركة مع كل القوى السياسية اللبنانية المتجذرة في السيستامَين الكولونيالي الأول و«الوصايتي» الثاني المشتق من الأول، تحولت مرة أخرى إلى معركة يقودها هؤلاء وتحديداً من خلال اعادة التعويل على القوى الكولونيالية الاولى! وتُجهض فيها من جديد إمكانيات التحول السيادي ليعاد انتاج الزعامات-الطوائف والغاء تاريخ التجربة الجماهيرية في مواجهة نوع آخر من الاحتلالات.

إنّ البنية القشرية، المظلّية، الفئوية لهذه الأيديولوجيات الأنتي-كولونيالية أثبتت تناقضها التاريخي مع المقاصد التحررية نفسها التي تحملها الأنتي-كولونيالية، فجرّدتها من معانيها وساهمت فاعلةً في تفتيت المجتمع وتغريبه عن الوعي الأنتي-كولونيالي الذي يسقط إلى مستوى ما بعد بعد الذلّ، إلى تمجيد الإنسان لقاتله على أنه «أنتي-كولونيالي» و«تاريخه الوطني مشرّف»، أو ما شابه ذلك من مفردات.

لا، لسنا بخَوَنَة.

وكلّ انتفاضة من انتفاضاتنا في وجه القوى الأصيلة والوسيطة التي قتلتنا، وبدّدت أرواح خيرة أبناء مجتمعنا لحماية سلطتها وحلفائها، نهبت ثرواتنا، ودمّرت حياتنا اليومية، هي خطوة في صراعنا التحرّري الوطني. إنّ الذين تجدر محاكمتهم تاريخياً هم الذين قادوا مجتمعاتهم إلى نقطة أصبح فيها التفكير بالسيادة يبدو رفاهيةً مقابل التفكير بالجوع والخوف وقلة الحيلة. لكنّنا نحمل في وعينا الثوري مسؤولية التجاوز، لنفهم وحدة المعركة مع قوى الهيمنة الدولية ووسطائها الإقليميين والمحليين.

لقد بنيت هذه التجارب الأنتي-كولونيالية كلّها بشكل منفصل عن المصلحة العامة للمجتمع، ما أدى بها تدريجياً إلى تدميره وتفتيته اقتصادياً واجتماعياً من أجل الحفاظ على امتيازاتها. عند هذه النقطة تفقد قوى ما بعد الاستيطان مؤهلاتها لوظيفة الجباية/الوساطة المحلية، فيخفت اهتمام المستعمر نفسه بالهيمنة مع تراجع الربحية، ريثما يتحول تدريجياً إلى تكوين وساطة محلية بديلة.

أفلا نسابق الوقت إلى كرامتنا، مصدر الشرعية الوحيد لأي سردية تحرّرية؟

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
تخطيط قيمة حياة فتاة عشرينيّة مقيمة في بدارو
وزير الدفاع الإسرائيلي يزور جنود الاحتلال في جنوب لبنان
وليد جنبلاط في سوريا
جيش الاحتلال يحاصر مستشفى كمال عدوان ويهدّد بإخلائه
الاحتلال يجرف بساتين الليمون في الناقورة
سينما متروبوليس تعود