بيان هيئة التحقيق الخاصّة في مصرف لبنان
تداول اللبنانيون يوم أمس بيان مطوّل من ثلاث صفحات صادر عن هيئة التحقيق الخاصّة في مصرف لبنان، تركّزت مضامينه على ما يلي:
- استعراض جهود الهيئة طوال السنوات الماضية، الهادفة لمكافحة الفساد وجريمة تبييض الأموال، والحد من استخدام النظام المالي اللبناني لاستيعاب الأموال المتأتية من أنشطة غير مشروعة.
- الإيعاز للمصارف اللبنانيّة بتحديث بياناتها المتعلّقة بحسابات الأشخاص المعرّضين سياسيًا، وتدريب موظفي وحدات الامتثال لديها (وحدات الامتثال في المصارف هي المديريّات التي تتولّى عمليّة مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب فيها).
- تبشير اللبنانيين بقرب صدور مستند عن مصرف لبنان يحدّث مؤشّرات الفساد التي يمكن تلمّسها في حسابات السياسيين، ما يساعد المصارف في تحديد العمليّات المرتبطة بالفساد في القطاع العام.
تقييم لمنظومة مكافحة تبييض الأموال في لبنان
لا يحتاج المرء إلى كثير من التحليل ليفهم سبب هذا البيان الاستعراضي من جانب الهيئة التي لم يحدث أن لعبت دورًا يُذكر على مستوى تتبّع الأموال الناتجة عن الكسب غير المشروع داخل النظام المصرفي.
فخلال أيّام، يُفترض أن تُنجز مجموعة العمل المالي لمنطقة الشرق الأوسط تقييمها لمنظومة مكافحة تبييض الأموال في لبنان. وهذه المنظّمة تمثّل في الوقت الراهن أهم المؤسسات الدوليّة الحكوميّة التي تُعنى بسياسات مكافحة تبييض الأموال، ووضع المعايير الخاصّة بهذه السياسات. ومن الناحية العمليّة، يبدو أن مصرف لبنان يُعطي الكثير من الاهتمام لهذا التقييم بالذات، لكون أي تشخيص سلبي من قبل المنظّمة سيعني المزيد من التضييق على علاقة مصرف لبنان والمصارف التجاريّة بالنظام المالي العالمي.
بذلك، يصبح من الواضح أن البيان الأخير من جانب هيئة التحقيق الخاصّة لا يتعدّى حدود الـBox Ticking لتحقيق متطلّبات مجموعة العمل الدوليّة، بمعزل عن فعاليّة هذه الإجراءات أو نتائجها في المستقبل.
هيئة بيد الحاكم
لكنّ البيان، ورغم هامشيّة أثره من الناحية العمليّة، كان مناسبة لإعادة التذكير بوجود الهيئة ودورها، ووظيفة «شاهد الزور» التي تؤدّيها على هامش النظام المالي اللبناني منذ أكثر من 21 سنة.
ولدت هيئة التحقيق الخاصّة من رحم قانون مكافحة تبييض الأموال العام 2001، لتكون جهازاً ذا طابع قضائي، يحتكر صلاحيّة الاطّلاع على الحسابات المصرفيّة بهدف مكافحة تبييض الأموال. وبما أنّ مفهوم تبييض الأموال يُعنى بإخفاء المصدر الحقيقي للأموال غير المشروعة، ومحاولة دمجها بالنظام المالي الشرعي، لا يمكن فصل عمل الهيئة عن تتبّع الثروات الناتجة عن الكسب غير المشروع والاختلاس وإساءة استعمال النفوذ، وسائر الأنشطة التي يُشار إليها بعبارة «الفساد» في لبنان.
ولتعزيز دور الهيئة، قرّر مجلس النوّاب، العام 2008، إصدار قانون يحصر بموجبه صلاحيّة «رفع السريّة المصرفيّة» بالهيئة، مع ربط هذه الصلاحيّة بجميع القوانين والأنظمة والإجراءات التي تستهدف «مكافحة الفساد»، لا سيما تلك المرتبطة باتفاقيّة الأمم المتحدة لمكافحة الفساد. وبذلك، لم يعد من الممكن تتبّع أي صفقة مشبوهة داخل النظام المصرفي، إلّا من خلال الهيئة.
في الشكل، أراد المشرّع الإيحاء بوجود هامش من الاستقلاليّة لهذه الهيئة، للقيام بدورها الحسّاس المتّصل بالحسابات المصرفيّة. لكن في المضمون، كان عيب الهيئة الأساسي تركيبتها: إذ يرأس الهيئة حاكم مصرف لبنان نفسه، فيما يملك الحاكم صلاحيّة اقتراح اسم أحد أعضائها، ما يعطيه وحده صوتين من أصل أربعة أصوات داخل الهيئة. وبما أن صوت الحاكم هو المرجّح في حال تعادل الأصوات، فهذه التركيبة تعني ببساطة إمساك الحاكم منفردًا بمفاتيح السريّة المصرفيّة من خلال القبض على قرار الهيئة.
حاجز السريّة المصرفيّة
هذا العيب الذي أفقد الهيئة استقلاليّتها المزعومة في القانون، انعكس تلقائيًّا في أدائها لمهامها الرقابيّة في مجال تتبّع الأموال غير المشروعة داخل النظام المصرفي، والتي تتّصل بالأموال العامّة المنهوبة بشكل وثيق. ومن هنا، يمكن فهم غياب الهيئة عن المشهد كلّيًا طوال السنوات الماضية، وعدم العثور في سجلّها على إحالة واحدة تكشف شبهات ما في عمليّات النظام المصرفي، بالرغم من مرور الغالبيّة الساحقة من الصفقات غير المشروعة بعمليّات المصارف التجاريّة المحليّة.
المثير للسخريّة هو أنّ رئيس الهيئة نفسه، حاكم مصرف لبنان، بات أحد المشتبه بهم في أربع دول أوروبيّة، ولدى قاضيين في لبنان، بقضايا الاختلاس والكسب غير المشروع وإساءة استعمال النفوذ، فيما يحول حاجز السريّة المصرفيّة دون تتبّع مصادر التحويلات المشتبه داخل النظام المصرفي. وقد جاء تمنُّع المصارف اللبنانيّة عن تسليم هذه الداتا للأجهزة القضائيّة اللبنانيّة، مربوطًا بحجّة السريّة المصرفيّة، والقانون الذي يحصر رفعها بهيئة التحقيق الخاصّة التي يرأسها المتّهم نفسه.
يعيد كلّ ما سبق تسليط الضوء على مكامن الخلل الكبيرة في هيكليّة الأجهزة القابعة تحت سيطرة حاكميّة مصرف لبنان، بمعزل عن هويّة الحاكم أو نزاهته. كما تعيد تسليط الضوء على حاجة البلاد لإعادة النظر بهذه الهيكليّة، كي لا تتحوّل أجهزة كهيئة التحقيق الخاصّة إلى مجرّد «شاهد زور» يتم استدعاؤه عندما يحتاج مصرف لبنان إلى شهادات حسن النيّة من المؤسسات الدوليّة.